كان ضروريا من هذه المقدمة، قبل الخوض في حملة التصفية التي تقوم بها وزارة التوفيق في حق الخطباء والوعاظ والأئمة والمرشدين، حملة تولتها الوزارة منذ أن أخذ زمامها الوزير الحالي، وأعمل سيفه على رقاب كل من لا يمتثل لقراراته وإملاءاته، أو لنقل لم يمتثل لورده وحزبه، ويتعامل بعقلية المريد الصوفي الذي عليه أن يكون كالميت بين يدي غساله. ليقدمه قربانا لآلهة العلمانيين ويريق دمه على عتبات معابدهم.
لقد أصبح توقيف الأئمة والخطباء الذين لا يرضى عنهم العلمانيون وإعلامهم المتنفذ، ظاهرة تستحق الاهتمام والمتابعة والدراسة. فبمجرد ما تشير أصابع منبر إعلامي علماني، حتى لو كان مغمورا، بالاتهام لخطيب أو إمام، تسارع وزارة الأوقاف بتوقيفه وقطع رزقه وحرمانه من حقه، دون تثبت ولا تبين، وأصبح يكفي في توقيف خطيب، أن يتهمه حاقد يجتر أسطوانة يسار السبعينات البائد، أو يعزف على وتر محاربة التطرف ذلك البعبع المارد.
هذا دون أن نتحدث عن اجتهادات الوزارة نفسها، والتي لا تكون محتاجة فيها لتحريض أو وشايات. إذ يكفي في هذه الحالة أن يعبر خطيب عن رأيه في مسألة علمية، أو من قضايا الشأن العام، حتى يجد نفسه معزولا طريدا شريدا، على طريقة محاكم التفتيش، وقاعدة فرعون ما أريكم إلا ما أرى، وبشكل لا يوجد في أي إدارة أو قطاع، فقط في المجال الديني، إذلالا لأهله، وتأكيدا على أن اليد الطولى والسلطة والسطوة فيه للعلمانية وأقزامها، ضدا على القرآن والسنة ومالك والأشعري والجنيد، وعلى تاريخ المغاربة وعلمائهم، آن الأوان لأقزام العلمانية ومنابرها الصفراء، أن تتولى عزل وتولية الخطباء، وكتابة خطبهم وتفسير دينهم وتأويله. بما يخدم أهدافها وارتباطاتها.
لم تعد الوزارة تكلف نفسها تحقيقا نزيها في الموضوع، أو جلسة حوارية مع المعني، يكون النقاش فيها علميا حول أقواله، ولا نحلم بطبيعة الحال بمراجعة الوزارة لسياستها واختياراتها. المعيار الوحيد للتوقيف والطرد هو، هل الخطيب مرضي عنه علمانيا، أم هو من المغضوب عليهم والضالين. وليس من حق هذا الخطيب الموقوف، الذي هو مواطن أولا وموظف ثانيا، أن تتعامل معه الجهة التي وظفته بما يكفله له قانون الشغل من حقوق وكرامة، ولن نتحدث عن معاملته بما يستحقه حامل القرآن المبلغ عن الله والوارث عن رسول الله، فهذا الخطاب متجاوز في بلادنا، وهذه المعاملة لن يحلم بها، لأن العالم والملحد والمشرك والمؤمن والجاهل، تجمعهم الوطنية وتحكمهم قوانينها ولا فرق بين حامل القرآن والكافر به والمدافع عنه والمستهزئ به.
ولقد أوقف الوزير علماء أجلاء لن يحلم ببلوغ علمهم ولا ربعه، وحرم المغاربة من تأطيرهم وتوجيههم، نذكر منهم:
الشيخ محمد بوخبزة ورضوان بنشقرون وعبد العالي الفذي ومحمد السايح ومحمد الخمليشي ويحيى المدغري وعبد المنعم الخامسي وفؤاد الدكداكي ونور الدين قراط وغيرهم كثير، وآخرهم الدكتور إدريس العلمي.
وكان الشيخ بوخبزة صرح أن من بين أسباب توقيفه موقفه من التحالف الذي شنته أمريكا على أفغانستان، ثم موقفه من عدد من القضايا بينها انحراف التصوف عن أهدافه وتحوله إلى شعوذة وسحر وطقوس ومهرجانات.
أما الدكتور رضوان بنشقرون فقد تم توقيفه بعد أن أعلن موقفه من مهرجان موازين، واستدعاء إلطون جون المغني الشاذ جنسيا، وصرح بنشقرون أن سبب توقيفه هو موقفه من: “تبذير أموال الأمة فيما لا يجدي، واستدعاء أشخاص لا يحترمون قيم الأمة وثوابتها، ووضع القدوات السيئة أمام الناشئة بما يمس سلامة عقولها ومقوماتها”.
وتم توقيف الخطيب عبد العالي الفذي بسبب موقفه من السياسة الأمريكية، وكان قد صرح: “أن الوزارة اكتفت بتبليغ قرارها بتوقيفي، الخميس المنصرم، عبر مندوبها بالمدينة عبد اللطيف يسف، ابن شقيق محمد يسف رئيس المجلس العلمي الأعلى، الذي رفض حتى مجرد إطلاعي على مسودة القرار”، وأضاف: “المهم بالنسبة إلى وهو أن يكون قرار الوزارة القاضي بتوقيفي من الخطبة معللا، وليس مزاجيا يتحكم فيه أشخاص حسب هواهم”، مشيرا إلى: “أن أمريكا ليست مقدسة في المغرب، وأنا أنتقدها في خطبي، وقد سبق لي أن انتقدتها في خطبة جمعة قبل 6 أشهر، واستدعاني رئيس المجلس العلمي المحلي الحبيب الناصري وحذرني من مغبة العودة إلى مهاجمة أمريكا بهذه الصيغة: أمريكا ما شي شغلك وهي صديقة للمغرب”. واستبعد الفذي أن يكون قرار توقيفه بسبب انتقاده للسياسة الخارجية الأمريكية فحسب، وإنما أيضا بسبب مهاجمته لخمارة يملكها يهودي بالقرب من ضريح سيدي رحال بحد السوالم وغير بعيد عن الجهة الخلفية للمسجد.
وتم توقيف إمام وخطيب مسجد عين اللوح عن مزاولة مهامه، بعد اتهامه بالخروج عن نص الخطب التي تحددها الوزارة، احتقانا كبيرا في صفوف سكان قرية عين اللوح، والذين هددوا بالخروج في مسيرة إلى إفران للمطالبة بالتراجع عن هذا القرار.
وتم توقيف عبد المنعم الخامسي، خطيب جمعة بمسجد النهضة، بحي المحاميد بمدينة مراكش، من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على خلفية إلقائه خطبة حول مهرجان “موازين”، في نسخته الأخيرة 2016.
وتم توقيف نورالدين قراط خطيب مسجد محمد السادس وأستاذ في كلية الآداب في وجدة، بسبب الخطبة التي تطرق فيها إلى عدة مواضيع، منها العملية العسكرية (عاصفة الحزم)، وقال الخطيب: “قلت إن بعض الدول التي ترفع شعار عاصفة الحزم كانت سببا في تقسيم بعض الدول العربية، وجعل بعض الدول على حافة الهاوية، ولم أشر إلى أي دولة عكس ما ورد في الاستفسار الذي أشار إلى السعودية”.
وأوقفت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية “فؤاد الدكاكي”، خطيب مسجد أبي بكر الصديق بتطوان، بسبب انتقاده في خطبة يومي الجمعة 12 و19 فبراير 2016 الثوابت الدينية بالمغرب كالأشعرية والتصوف.
وأوقفت الوزارة خطيبا انتقد حكومة بنكيران واتهمها بالرفع من أثمنة المواد الاستهلاكية، الحادث يهم خطيب جمعة بمدينة تازة، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بررت القرار بكون الخطيب ليس من مهامه انتقاد الحكومة، واستغلال المنبر للحديث عن الزيادات في النقل والدقيق والسكر والشاي والماء والكهرباء.
وتم توقيف خطيب الجمعة المعروف بإقليم الناظور “نجيب الزروالي” بسبب توسع دائرة متابعي خطبه المنتقدة لمجموعة من المظاهر السلبية المنتشرة في المجتمع والتي تتغاضى عنها السلطات العمومية بل وتدعمها في الكثير من الأحيان ماديا ومعنويا كالمهرجانات الصيفية الباذخة والفاحشة. والخطيب من بين المناهضين للمهرجانات الموسيقية التي تسهر عليها بعض الجمعيات المدنية والتي ترصد لها ميزانيات ضخمة ممتصة من المال العمومي، في الوقت الذي لا يستطيع فيه بعض المرضى بأمراض خطيرة كالسرطان من جمع قسط متواضع من الدريهمات من أجل إنقاذ أرواحهم.
وتم توقيف الخطيب الدكتور بزا عبد النور، بسبب حضوره وقفة مساندة للشعب الفلسطيني، وقد علق على ذلك بالقول: “أن الوقفة الاحتجاجية المساندة للشعب الفلسطيني بقطاع غزة كانت مرخصة من قبل السلطات المحلية خلافا لما جاء في نص الإعفاء، وكانت بمساهمة ثلاثة وثلاثون هيئة سياسية ومدنية منها العدالة والتنمية وفصائل من جماعة العدل والإحسان”. لم يكن هذا هو الاتهام الوحيد، بل أضيف له الانتماء إلى جماعة العدل والإحسان، وهو ما نفاه لرئيس مصلحة الشؤون الدينية بالمندوبية بحضور ثلاثة شهود من موظفي المندوبية.
وإن هذا الفراغ الذي يتركه أمثال هؤلاء، له تبعات على أجيالنا التي تحرم من تأطير يتم في وضح النهار، ليبحثوا عن تأطير في السراديب المظلمة والشبكات العنكبوتية الملتوية، وإن كانت الوزارة تعتقد أنها باستطاعتها التحكم في الخطاب الذي تريده هي، فهي واهمة، لقد تجاوز الزمن تلك المقاربة، وأصبح الشباب يقبلون عمن يقترب من همومهم وتطلعاتهم، ويعبر عن مكنوناتهم وطموحاتهم ويلامس آلامهم وقناعاتهم، ويحلل واقع أمتهم ومشاكل بلادهم، بفقه وعلم وتحليل وعمق، فإن حرموا منه، بحثوا عنه في فضاءات ليست للوزارة ولا للدولة عموما عليها سلطة ولا رقابة.
وإن انسياق وزارة التوفيق وراء تحريض شرذمة من العلمانيين لا تريد لا المالكية ولا الملكية، ولا تفهم حاجة الدين وضرورته، ولا تقدر عواقب محاربته، التي تنتج ردود فعل متطرفة وعنيفة، إن هذا الانسياق وهذا الاندفاع وراء تجفيف منابع الخطباء الصادقين، لن يؤدي إلا إلى ما وصلت إليه تونس بعد عقود من التضييق والتجفيف العلماني الحاقد، فأنتجت أكبر خزان للتطرف في المنطقة وفي العالم.