تأملات في آيات الربا من سورة البقرة (2) إبراهيم والعيز

طريقة علاج العلماء لموضوع الربا
نظرا إلى أنه لا يوجد أمر استنكره الإسلام كما استنكر الربا، وأغلظ فيه القول كما أغلظه في أمره، إذ هو الأمر الوحيد الذي هدد مرتكبيه بحرب من الله ورسوله، فقد عالج علماء الإسلام من السلف والخلف موضوع الربا بكثير من اليقظة والحذر، واتفقوا على إثبات صفة الربوية لعدد محدود من المعاملات فوقع الإجماع على إدراجها في الربا، وفي طليعة ما أجمعوا على منعه منعا باتا: ربا الجاهلية الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في حجة الوداع: “… وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب”(1)، وهذا ما تعارفوا عليه بقولهم: “أنظرني أزدك”.
ثم اختلف اجتهاد علماء السلف ورأي الأئمة في عدة صور ومعاملات مما وجدوه متعارفا بين أظهرهم، فأثبت بعضهم لها صفة الربوية وحكم بتحريمها، ونفى بعضهم الآخر عنها تلك الصفة وأباح التعامل بها. قال ابن كثير في تفسيره: “ومن هذا حرموا -أي الفقهاء- أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم”(2)، ثم عقب ابن كثير على ذلك في تفسيره فقال بالحرف الواحد: “وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ثلاث وددت رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا” يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا”(3)، ثم نقل ابن كثير بعد ذلك برواية سعيد بن المسيب إلى عمر بن الخطاب أنه قال في نفس الموضوع: “من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة”(4).
وعندما نراجع أحكام القرءان للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري، نجده قد خصص لموضوع الربا بحثا شافيا تبرز من خلاله أهمية هذا الموضوع وخطورته، وقد بين أن الرجل من العرب في الجاهلية كان يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال له: “أتقضي أم تربي وأصبر أجلا آخر؟” فحرم الربا وهو الزيادة(5).
وأشار ابن العربي إلى اختلاف العلماء في حمل آية الربا هل هي عامة في تحريم كل ربا أم مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟(6)؛ ولم يهمل الإشارة إلى أن تطبيق آيات الربا على الصور المختلفة قد أشكل على أكثر العلماء فقال ما نصه: “ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر”(7)، ثم عقب على ذلك قائلا حكاية عن نفسه: “وقد فاوضت فيها علماء، وباحثت رفعاء، فكل منهم أعطى ما عنده، حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا”(8).
وبناء على ما ذكر نرى أن المسلم يجب عليه أن يتفادى كل معاملة أجمع العلماء على اعتبارها معاملة ربوية محرمة، وفيما عدا المجمع على تحريمه من المعاملات ينبغي من باب الاحتياط والبعد عن التشهي أن يلتزم المسلم فيها مذهب إمامه، فما هو ممنوع في المذهب تركه وما لا منع فيه استباحه لنفسه.
أما الصور الجديدة والمعقدة من المعاملات التجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث، والتي لم يسبق لها نظير ولا أفتى فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، فإن الواجب يقضي بإعمال النظر فيها طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثابتة وتمييز ما يندرج منها تحت الربا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله في شأن المعاملات الربوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الربوية القديمة.
وفي الختام أقول: إن هذا الموضع الحيوي الخطير يجب أن يتم النظر فيه على أساس اجتهاد فقهي جماعي يشترك فيه علماء الإسلام المعاصرون، ثم تعلن نتيجته على رؤوس الملأ في العالم الإسلامي كله، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية، وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- صحيح الإمام مسلم، كتاب الحج: باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: 2967، ج: 2، ص: 441.
2- تفسير ابن كثير، ج: 1، ص: 381.
3- نفسه، ج: 1، ص: 381.
4- نفسه.
5- أحكام القرءان، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد عبد القادر عطا، ط: 3، 1424هـ/2003م، دار الكتب العلمية-بيروت، ج: 1، ص: 320.
6- نفسه، ج: 1، ص: 320.
7- نفسه.
8- نفسه، ج: 1، ص: 321.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *