من المعلوم أن الألفاظ قوالب للمعاني، وأن الله تعالى يؤاخذ العباد ويحاسبهم على ما نطقت به ألسنتهم، كما يحاسبهم على ما اقترفت جوارحهم، يدل على ذلك قوله تعالى: “مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” (ق 18).
وحين سأل معاذٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: “يَا نَبِي اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟”، أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» (صحيح الجامع: 5136).
ومن ثَمَّ وجبت العناية بتهذيب الألفاظ، حرصا على الامتثال لقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” (متفق عليه)، ولا يحصل هذا الامتثال إلا بمعرفة المقبول من الألفاظ ليُتَكَلَّمَ به، ومعرفة غير المقبول منها ليُمْسَكَ عَنْهُ.
1. أقسام الألفاظ والمصطلحات
ليس مقصودي في هذا المقال المختصر التطرق إلى المناهي اللفظية التي يتلفظ بها عوام الناس من شرك أو سباب أو غيبة أو نميمة… وإنما مقصودي التطرق إلى نوع خاص من الألفاظ وهي الألفاظ المستعملة في العلوم والفنون الشرعية وغيرها، فإن هذا النوع من الألفاظ ينقسم إلى نوعين:
1) ألفاظ شرعية جاء بها القرآن أو السنة والنبوية أو انعقد عليها الإجماع، فهذا النوع من الألفاظ يجب قبوله مع الحفاظ على معانيه الشرعية المقصودة به.
2) ألفاظ ومصطلحات وضعية تواضع عليها قوم أو أهل فن من الفنون، فهذا النوع ينقسم إلى قسمين سيأتي التفصيل فيهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وَبِالْجُمْلَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَلْفَاظَ نَوْعَانِ: لَفْظٌ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الإجْمَاعِ؛ فَهَذَا اللَّفْظُ يَجِبُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ سَوَاءٌ فَهِمْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَفْهَمْهُ؛ لأنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَقُولُ إلا حَقًّا وَالأُمَّةُ لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ .
وَالثَّانِي: لَفْظٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ..”.
2. التزام الألفاظ الشرعية هو الأصل
من المعلوم أن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليبين للناس ما نزل إليه ولعلهم يتفكرون، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، حتى تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومن المعلوم أيضا أن هذا البيان كان بواسطة ألفاظ وعبارات شرعية، قد بلغت الغاية في البيان والنصح لعباد الله، تلك هي الألفاظ التي عُبر بها عن معاني الهدى المذكور في قوله تعالى: “فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى” (طه123)، تلك هي الألفاظ التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية، سواء في باب الاعتقادات أو العبادات أو المعاملات. وقد كان السلف رحمهم الله يحرصون على الالتزام بتلك الألفاظ الشرعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “…فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية فيعبرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا” (درء تعارض العقل والنقل 1/145).
وذلك لأن في الألفاظ الشرعية العصمة من الزلل، والسلامة من الخطإ والخطل، وأما ما سواها من الألفاظ فإنها مزلة أقدام، ومضلة أفهام.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: “ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل، مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم، يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلوف، رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص، والإقبال على الألفاظ الحادثة، وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد مالا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة، وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عهد الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون؛ كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك وهلم جرا.
ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع؛ كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة؛ يقولون قال الله كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل رسول الله كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط، فمن تأمل أجوبتهم؛ وجدها شفاء لما في الصدور… والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومن رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير”. (إعلام الموقعين 4/170-172).
وفي معنى هذا الكلام قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد مشددا النكير على من استبدل بالألفاظ الشرعية الالفاظَ المستوردة: “..وعليه فإن من ينابذ أسماء الشريعة ومصطلحاتها، مستبدلا لها بمصطلحات وافدة من أمم الكفر والعدوان، فهو على خطر عظيم، ولا يبرر صنيعَه حسنُ نيته، فليتق الله أقوام خذلوا أمتهم: أمة القرآن، تحت شعارات زائفة، من التطور، والحضارة، والرقي، والتقدم، والمرونة، ومراعاة روح العصر، ومسايرة الركب، وأن هذه أسماء والأسماء لا تغير الحقائق، فهي قشور، والمقصود سلامة اللباب، إلى غير ذلك من شعارات التذويب والتهالك، وما يزالون كذلك حتى يخرجون من اللباب كما خرجوا من القشور -على حد قولهم- نسأل الله العافية، وحسن العاقبة.
وإن هذا التغير في الظاهر والصورة والشكل هو عربون الفتنة في الحقيقة والمضمون، فعلى أهل الإسلام اليقظة والحذر، والسير على السنن الأقوم، والمنهج الأرشد من هدى الشريعة ودلها في أمرها ونهيها، واعتبار مقاصدها، وليكونوا على حذر عظيم من مجاراة أهل الأهواء والبدع، والوقوع في البدع المرققة للدين، والمنابذة لشريعة رب العالمين.
وليعلموا أن للمخالفين ضرواة أشد من ضرواة السباع الكاسرة، وأنه يداخل أهل الإسلام أقوام ما هم منه، دأبهم إدباب الفساد في جسم الإسلام النامي، ولا يحقرون من الوقيعة شيئا.
وأَنَّ مِنْ سَنَنِهِمْ جَلْبَ فَاسِدِ الاصطلاح وَالرَّمْيَ بِهِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فَيَكْسُونَ الحَقَّ بِلِبَاسِ البَاطِلِ، وهذا نصفُ الطريق، ثم ينخرون في الحقيقة بالتغيير، والتبديل والتحريف، والتأويل حتى تضحي قضايا الشرع من شرع منزل إلى شرع مبدل مؤول، وعليهم أن يفهموا جيدا أن العصمة بقدر ما هي في حقائق الشريعة فهي في ألفاظها ودوالها” (المواضعة في الاصطلاح ص 73-74).