الضلال بعد انكشاف البلاء (تتمة) طارق برغاني

نستكمل موضوعنا السابق بعرض مجموعة من مظاهر ارتداد العبد عن الإيمان بعدما أنعم الله عليه من نعمه وأفاض عليه من آلائه، وأمنه من الخوف وبين له سبيل الهدى والرشاد، فبعد ما رأينا بعضا من معاني الضلال المتمثلة في:
الانتكاسة “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ الحج:11.
والانسلاخ من آيات الله بعد أن أوتيت، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ ما أتخوَّفُ عليكم رجُلٌ قرَأ القُرآنَ حتَّى إذا رُئِيَتْ بهجتُه عليه وكان رِدْئًا للإسلامِ غيَّره إلى ما شاء اللهُ فانسلَخ منه ونبَذه وراءَ ظَهرِه وسعى على جارِه بالسَّيفِ ورماه بالشِّركِ”، قال: قُلْتُ: يا نبيَّ اللهِ أيُّهما أَوْلى بالشِّركِ المَرْميُّ أم الرَّامي؟ قال: “بلِ الرَّامي”، صحيح ابن حبان: 81 (الراوي: حذيفة بن اليمان).
وإنكار النعم، “هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ” يونس: 22-23.
كما يصف لنا القرآن الكريم بأسلوب بليغ تقلب حال العبد بين الإنعام من الله تعالى والحرمان من رحمته ونعمائه عز وجل: “وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ “هود: 9-10.
نعرض في هذه الرسالة تجليات أخرى من النكوص والضلال.
موت النفس اللوامة:
النفس اللوامة هي النفس المؤمنة التقية التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات وفعل المعاصي، وهذه النفس معيار في تقويم اعوجاج العبد، مادامت حية متيقظة إلا وطبائع الخير لازالت قائمة فيه تصارع ما عرض لها من نوازع الشر، “لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” القيامة:1-2، ومتى ماتت هذه النفس وانطفأ نورها إلا وجمحت إلى السوء والأمر به، والتحريض على الشر والانسياق إليه، “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ” يوسف:53.
وفي الأثر أن: “رجلا عليهِ بردةٌ لهُ فقعدَ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ثمَّ جاءَ رجلٌ عليهِ أطمارٌ لهُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أَكلُّ هذا تقذُّرًا من أخيكَ المسلمِ أَكنتَ تحسَبُ أن يصيبَه من غناكَ شيءٌ أو يصيبَك من فقرِه شيءٌ فقال الغنيُّ معذِرةً إلى اللَّهِ وإلى رسولِه من نفسٍ أمَّارةٍ بالسُّوءِ وشيطانٍ يَكيدُني أشهدُك يا رسولَ اللَّهِ أنَّ نصفَ مالي لهُ فقال الرَّجلُ ما أريدُ ذاكَ فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لمَ ذاك قال أخافُ أن يفسِدَ قلبي كما أفسدَه” أبو نعيم، حلية الأولياء: 8/56، (مرسل).
الأمان من مكر الله:
الله يمهل ولا يهمل وكم من شخص اغتر بماله، سلطته، نفوذه، منصبه، قوته، مكانته، فلم يستحضر قدرة المنعم بها عليه، ولم يؤد حق الخالق فيها بالشكر والاستعمال في الخير ومصلحة الدين والعباد، وعِوض ذلك وظفها في قهر الناس وإذلالهم وإشاعة الرذيلة وتصريف ألوان الظلم والطغيان فيهم، فما كان من الله عز وجل إلا أن أراهم فيه عجائب قدرته تعالى وأشهدهم آيات معجزاته في سوء الخاتمة وشر العاقبة، “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ” الأعراف:96-99.
النسيان:
وهو آفة الإنسان، فيما عمل وعلم، وفيما أفاض الله عليه من خيرات ونعم، ومما ورد في تعريف لفظ “الإنسان”، ما وُسم به من صفة النسيان فسمي “إنسانا” لكثرة نسيانه.
ويأتينا القرآن الكريم بمشاهد من طوائف بشرية ابتلاها الله بالنسيان وفقدان الذكرى عما جاءها من الحق جراء نقضهم لمواثيق الله ورسله، فكان عاقبة ذلك:
لعنة وقلوب قاسية متحجرة إلا قلة قليلة: “فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” المائدة: 13.
إلقاء العداوة والبغضاء بينهم: “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” المائدة: 14.
البطر والركون إلى الملذات ونسيان المنعم، وعاقبة ذلك الأخذ على بغتة من غير ترك فسحة للرجوع أو التوبة: “فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ” الأنعام:44.
تسويف وعهد زائف:
هو صادر من إنسان مدرك للخطر ومستشعر لسوء المآل، لكنه يُظهر وعدا زائفا بالتوبة مستقبلا، وبالإقلاع قريبا، وبالرجوع حالا، كلما اشتدت به الكرب ونزل به البلاء، اجتهد في طلب الفرج من الله تعالى، حتى إذا أخرجه الله من الضيق ورفع عنه المحن، افترق على ثلاثة أصناف:
إما متوسط لم يقم بالشكر على وجه الكمال، وإما جاحد كفور، “وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور” لقمان: 32.
وإما صنف ثالث مشرك، “قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ “الأنعام: 63-64.
الإسراف في الملذات:
الإسراف في عمومه مذموم، باعث على الكسل والفتور، مؤد إلى تغليب الشهوة على الطاعة والاستهانة بحدود الله تعالى والتثاقل في العبادة، وفتح منافذ الشيطان والتدرج في المعصية من الصغرى إلى الأكبر منها، وهذا هو الضياع المحتوم، والهلاك المحقق.
وهنا يحذرنا الله تعالى من الإسراف فيما أنعم به على عباده، ويحتنا على استعمال تلك النعم في أعمال الطاعة والبر، “وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” الأنعام:141.
قال ابن عباس: أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة، فأما ما تدعو الحاجة إليه، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ، فمندوب إليه عقلا وشرعا، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس.
ويقول القرطبي: “وذلك يثقل المعدة، ويثبط الإنسان عن خدمة ربه والأخذ بحظه من نوافل الخير، فإن تعدى ذلك إلى ما فوقه مما يمنعه القيام الواجب عليه حرم عليه” تفسير القرطبي: 7/173-175.
اللهم لا تحرمنا من نعمك وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *