الحلم: آية الخلق, وعنوان علو الهمة, فهو من أشرف الأخلاق, وأحقها بذوي الألباب, لما جعل الله فيه من الطمأنينة, والسكينة, والحلاوة, وسلامة العرض, وراحة الجسد, واجتناب الحمد, ورفعة النفس عن تشفيها بالانتقام, فلا ينبل الرجل حتى يكون متخلقا بهذا الخلق العظيم.
فضل الحلم وفوائده:
1ـ أنه امتثال لأمر الله تعالى الذي هو غاية سعادة الإنسان في معاشه ومعاده:
قال الله سبحانه وتعالى في آية جامعة لحسن الخلق: “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ” الأعراف199.
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: “أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس”.
2ـ أنه صفة من صفات الله تعالى:
قال الله تقدست أسماؤه: “وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ” البقرة 235.
قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره هذه الآية: “الحليم: الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة والباطنة مع عصيانهم, وكثرة زلاتهم, فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم, ويستعتبهم كي يتوبوا, ويمهلهم كي ينيبوا” تيسير الكريم الرحمن 5/630.
3ـ أنه من أخلاق الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين:
لم يسم الله عز وجل بالحلم في كتابه أحد إلا إبراهيم خليله, وإسماعيل ذبيحه.
قال الله سبحانه وتعالى: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ” هود 75, وقال: “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ” الصافات101.
وبلغ نبينا صلى الله عليه وسلم الذروة والغاية في حلمه وعفوه, وضبط النفس إزاء التخرصات والمفتريات التي نسبت إليه, إضافة إلى الإيذاء الذي لقيه من مشركي العرب: كامرأة أبي لهب, وأبي جهل, وأبي بن خلف, وغيرهم من سفهاء مكة.
وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويصفح”.
وعنها -أيضا- قالت: “ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا -قط- بيده, ولا امرأة ولا خادما, إلا أن يجاهد في سبيل الله, وما نيل منه شيء -قط- فينتقم من صاحبه, إلا أن ينتهك شيئا من محارم الله, فينتقم لله عز وجل”.
وجاء في وصفه صلى الله عليه وسلم في التوراة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: “ليس بفظ ولا غليظ, ولا سخَّاب بالأسواق, ولا يدفع السيئة بالسيئة, ولكن يعفو ويصفح”.
قال الشاعر:
صفوح عن الإجرام حتى كأنه *** من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى *** إذا ما الأذى لم يعش بالكره مسلما
وإليك هذين المثالين من سيرته صلى الله عليه وسلم الدالين على سعة حلمه:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي أن نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه, وهو يمسح الدم عن وجهه, ويقول: “اللهم اغفر لقومي, فإنهم لا يعلمون”.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم, وعليه برد نجراني غليظ الحاشية, فأدركه أعرابي, فجبذه بردائه جبذة شديدة, حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته, ثم قال: يا محمد, مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ضحك, ثم أمر له بعطاء”.
قال ابن حجر رحمه الله تعليقا على هذا الحديث: “وهذا من روائع حلمه صلى الله عليه وسلم وكماله, وحسن خلقه, وصفحه الجميل, وصبره على الأذى في النفس والمال, والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام, وليتأس به الدعاة إلى الله والولاة بعده في حلمه, وخلقه الجميل: من الصفح والإغضاء, والعفو, والدفع بالتي هي أحسن” الفتح 10/506.
قال حسان بن ثايت الأنصاري:
أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله ميمون يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *** إذ قال في الخمس المؤذن: أشهد
وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود, وهذا محمد
4ـ أنه سبب لنيل محبة الله, وثوابه الجزل العظيم:
قال الله سبحانه وتعالى: “وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (آل عمران).
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من كظم غيظا, وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق, حتى يخيِّره من أي الحور العين شاء” صحيح الجامع.
5- أن الله يتجاوز عن سيئات أهل الحلم كما تجاوزوا عمن أساء إليهم من عباده, فالجزاء من جنس العلم:
كان مسطح بن أثاثة من فقراء المهاجرين, وكان قريبا لأبي بكر الصديق, ويعيش على إحسانه, وفي حادثة الإفك لم يتورع عن الخوض فيها, والخبط في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي يكفله أبوها, فنسي بذلك حقَّ الإسلام, وحق القرابة, وحق الصنيع القديم, فأغضب ذلك أبا بكر, وجعله يحلف ألا يصل قريبه هذا كما كان يصله, فقال: “والله, لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال”.
فأنزل الله عز وجل: “وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (النور).
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: “بلى, والله إني لأحب أن يغفر الله لي” فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه, وقال مقابل حلفه الأول: “والله, لا أنزعها منه أبدا” رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: “ارحموا ترحموا, واغفروا يغفر لكم” صحيح الجامع 1/897, والصحيحة 482.
6- أنه يقطع خواطر الثأر التي تستهلك القلب:
“مشهد السلامة وبرد القلب, وهذا مشهد شريف جدا لمن عرفه, وذاق حلاوته, وهو ألا يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى, طلب الوصول إلى درك ثأره, وشفاء نفسه, بل يفرغ قلبه من ذلك, ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له, وألذ وأطيب عنده, وأعون على مصالحه, فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهمّ عنده, وخير له منه, فيكون بذلك مغبونا, والرشيد لا يرضى بذلك, ويرى أنه من تصرفات السفيه, فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس, وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟!” تهذيب المدارج 2/670.
7- أنه يقطع إلحاح الجاهل في الظلم:
قال الله سبحانه وتعالى: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” (فصلت).
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: “جاءت النتيجة بـ (إذا الفجائية), لأن (إذا الفجائية) تدل على الحدوث الفوري في نتيجتها: “فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ”, ولكن ليس كل أحد يوفَّقُ لذلك, وقال: “وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” فصلت.
يقول ابن القيم رحمه الله: “فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أمن ما هو شرّ من ذلك, وإذا انتقم واقـَعه الخوف ولا بد, فإن ذلك يزرع العداوة, والعاقل لا يأمن عوده, ولو كان حقيرا, فكم من حقير أردى عدوه الكبير”.