الإسلام والمدنية الحديثة

كان الكتَّاب الذين قيضهم الله في مبدأ هذا القرن للدفاع عن الإسلام والمنافحة عن شريعته يجعلون مظاهر المدنية الحديثة وقوانين الاجتماع العصري هي مقياس النهوض والتقدم وغاية النجاح والفلاح، ثم يعمدون إلى شريعة هذا الدين الحنيف ونظمه السياسية والمدنية يوفقون بينها وبين تلك المظاهر ويلحقونها بهاتيك القوانين على دعوى أن بينها وشيجة نسب ولحمة قربى تجعل الفارق بينهما معدوما والمشابهة قوية جدا، فالإسلام هو روح المدنية، والمدنية الحديثة بالقصد، وإذا كان هناك ما لا يثبت أمام هذه المدنية فهو النصرانية لا الإسلام، وهكذا يمضون في المقارنة والتطبيق وغاية قصدهم وجل مرادهم أن يساير الإسلام ركب الحضارة الغربية، ولا يتخلف عنها في شيء.

أما من يفكر في أن الإسلام دعوة أسمى وأعلى من أن تنزل إلى هذا الحضيض الأسفل من مسايرة هذه المدنية الهلوك وأنه نظام قدسي النزاعات فمدنيته هي المدنية التي تكفل سعادة البشر فمن حقها أن يحكم بها ولا يحكم عليها فهذا قليل من قليل.
وأما من يفكر في أن النصرانية هي والإسلام شيء واحد؛ لأنها مثله دين سماوي جاءت لتعديل الانحراف الذي وقع في اليهودية التي هي أيضا دين سماوي، كما جاء الإسلام لتعديل النصرانية المنحرفة بموجب قوله تعالى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ” فهذا أندر من النادر، ولعل الاستدلال على أن الأديان الثلاثة أصلها واحد ونابعة من عين واحدة هو مما لا يعوز باحثا في أصول الأديان؛ ويكفي المسلم في ذلك قوله تعالى: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”، وبناء على ذلك فإن كل طعن يوجه إلى الإسلام وشريعته هو أيضا طعن على النصرانية والشريعة اليهودية التي أثبتتها النصرانية ولم تنقض منها شيئا، فقد ثبت عن سيدنا عيسى عليه السلام أنه قال: “ما جئت لأنقض الناموس، الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض؛ لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس” والمقصود بالناموس هنا الشريعة الموسوية.
وبهذا النص من الإنجيل احتججت على أحد الرهبان الإسبان كان راكبا معي في القطار الذاهب إلى مدريد، وانجر بنا الحديث إلى قضية الدين وكان أن أقنعته بالمنطق والبرهان في كثير من المسائل التي أوردها علي وهو يرى أنها مطاعن لا تقبل التأويل ولا الرد، حتى أورد مسألة تحريم أكل لحم الخنزير فجادلته بكونه مستقذرا لأكله القمامة، وبكون ضرره ثابتا طبيا لما يولده من الديدان الشريطية، ولاسيما الدودة الوحيدة الخطرة فقال: إن الطب الحديث قد قضى على هذه الأوهام كلها، وضحك ضحكة منكرة وقال: لو أن محمدا ذاق قطعة لحم من فخذ خنزير لما حرمكم من لذة أكل لحم هذا الحيوان الذي هو من أطيب اللحوم، فقلت له إننا نتذاكر في دائرة الأوامر الدينية من حيث مطابقتها للعقل والمصلحة، ومسألة تحريم أكل لحم الخنزير ليست خاصة بالإسلام فهي من قضايا دينكم أيضا وما يلزم عليها في الإسلام يلزم عليها في النصرانية فقال محال، إن ديننا لا يحرم أكل لحم الخنزير فقلت له بلى، إنه يحرمه، واستدللت عليه بكلام السيد المسيح المتقدم، وقلت له: ما دام لحم الخنزير محرما في شريعة موسى فهو محرم عليكم بهذا الدليل، ولم يثبت أن سيدنا عيسى عليه السلام أكله، فلم يحر جوابا.
ومثل هذا يقال في مسألة الطلاق وتعدد الزوجات فإنهما معا من شريعة التوراة وقد جمع الأنبياء الأولون بين عدة زوجات ولم يجئ عيسى عليه الصلاة والسلام بما ينقض ذلك، فإذا كان النصارى قد خالفوا دينهم وسنة أنبيائهم الذين يومنون بهم من أمثال إبراهيم ويعقوب وداود عليهم السلام، فإننا يجب أن نفتخر بتمسكنا بدين الله الذي شرعه لعباده، ونقول للمنتقدين غير المعتقدين ما دمنا نتكلم في دائرة الدين وحكمة التشريع الإلهي: إن الإسلام هو ديننا ودينكم، ما عبتم منه فإنما تعيبونه على أنفسكم وما نلتم من نبيه فكأنكم تنالونه من أنبيائكم، وأما إذا كنتم تنقدون الدين بإطلاق لا بقيد كون دين الإسلام فدعونا ننافح عن كلمة الله المقدسة وشريعته المطهرة، وننازل الزندقة، والإلحاد بما يزيفهما ويظهر عواريهما وحسبنا حينئذ أن نكون حماة الإيمان ودعاة اليقين؛ في حين أنكم تتظاهرون بمهاجمة الإسلام ونبيه عليه السلام وتبطنون الكفر والهرطقة؛ وتبذرون بذور الشك والزيغ في النفوس الطاهرة والقلوب النقية توسلا لزحزحتها عن اعتقادها السليم وإبعادها عن دينها الصحيح.
لكن الكثير من أصحابنا الذين كتبوا في موضوع الإسلام والمدنية لم يرتكبوا هذا الأسلوب ولم يسلكوا هذا الطريق في المنافحة عن الإسلام ومنازلة خصومه الذين أكثروا عليه من النقول والبهتان وإنما ذهبوا يلتمسون المعاذر والمخارج بعد أن ركزوا الدفاع على أصالة المدنية الحديثة، وسلامتها من كل عيب، فمثلا إذا عرض الكلام للمرأة في الإسلام وجاءت مسألة تعدد الزوجات ومسألة الطلاق ترى الأقلام تتبارى في رد هذه (الوصمة) وتبرئة ساحة الإسلام من عهدتها، فمن قائل أن القرآن لم يبح التعدد مطلقا، ومن قائل أنه قيده بقيود شديدة تجعله في حكم المحظور لأن الإنسان لا يستطيع أن يفعله على الشرط الذي شرعه به الإسلام، وهكذا من غير نظر في لوازم هذه الأقوال ومفاهيمها يحرصون الحرص كله على موافقة التشريع الغربي ليكون ذلك تزكية للإسلام.
أما الطلاق فمنهم من يجعل له شروطا وقيودا ما أنزل الله بها من سلطان، ومنهم من يدعو إلى إبطال أنواع منه، ومنهم من يدعي عدم وقوعه في كثير من الأحوال ليوافق هذه المدنية الخلابة.
كذلك إذا عرض الكلام إلى هذه المذاهب الاجتماعية الداعية إلى العناية بأفراد الأمة ولاسيما الطبقات الفقيرة بتمريضهم وتعليمهم والترفيه عنهم؛ فإن كتابنا يذكرون الزكاة ويقرنونها إلى النظم الاشتراكية ويضربون للإسلام -بارك الله فيهم!- بسهم في هذه الناحية أيضا من نواحي المدنية الحديثة.
ولا ننسى المذاهب السياسية ونظم الحكم والديمقراطية بالخصوص، فكم أشاد كتابنا أيضا بموافقة الإسلام لها وجريانه على سنتها، وكم قارنوا بينهما وطبقوا من جزئيات ليقولوا أنهما توأمان لا يختلف فيهما اثنان.
إذا كان الرد على أمثال كـ”رومر” و”سكوت” و”رينان” ونظائرهم اقتضى من كتاب الجيل السابق أن يسلكوا هذا السبيل في النصح عن الإسلام ودحض أقوال خصومه فإن كتاب هذا الجيل يجب أن يعرفوا مهمتهم وأن يفرقوا بين الجواهر والأعراض، والدرر والأصداف، وأن يقوموا لهذا الدين الحنيف بالدعوة اللازمة ويشيدوا بأغراضه السامية؛ ومثله العليا؛ ويفهِموا العالم أن مدنيته هي مدنية المبادئ الفاضلة والغايات الشريفة؛ والنزوع بالنوع الإنساني إلى الكمال النفسي والخلقي؛ وإهدار الفوارق الجنسية والعنصرية؛ وإيثار الخير العام على المصلحة الخاصة ولو كانت لشعب كامل؛ إذا لم تشمل غيره من الشعوب، هي مدنية قائمة بنفسها لا تستظل بظل هذه المدنيات الزائفة الفاشلة، وهي نظام الحياة السعيدة التي أرادها الخالق للمخلوق.
لا يحاولوا بعد الآن أن يستروا محاسن الإسلام بهذه التأويلات البعيدة، وليقولوا بمنتهى الصراحة أن تعدد الزوجات والطلاق مثلا هو تشريع إسلامي أصيل لا دخل فيه ولا دغل، وهو وإن لم يوافق (ما كان) عليه التشريع الغربي من استنكاره فإننا غير حريصين على هذه الموافقة وأقول ما كان، لأن هذا التشريع أصبح يجري في أثر التشريع الإسلامي؛ فأباح الطلاق وأباحه بكيفية أوسع مما هو عليه في الإسلام، وهو يجري أيضا في طريق تقنين التعدد والاعتراف بشرعيته وإن كان عمليا لم يخل من إقراره قط.
أما أمر الزكاة فهو أعظم وأجل من كل اشتراكية مدعاة، هو ضمان اجتماعي يغبر في وجه كل نظام تدعم به هذه المدنية الحديثة مجتمعها، وقارن أي مجتمع حديث بأحوال المجتمع الإسلامي أيام الخلفاء الذين كانوا يعنون بجباية الزكاة وصرفها في مصارفها، تدرك الفرق جليا بين المجتمع الإسلامي السعيد والمجتمع الحديث الذي يدمغه البؤس والشقاء.
وكذلك نظام الحكم في الإسلام يجب على كتابنا ألا يهينوه بمحاولة تنظيره بهذه الديمقراطية الكاذبة، هذه المحكمة التي لا ضمير لها إلا الرشوة والتزوير، ولا قانون إلا الميز والمحاباة.
هذه…حرام أن يقاس بها النظام الذي جعل صهيبا وبلالا وسلمان في مستوى واحد مع أبي بكر وعمر وعلي، واقتص لقبطي من عامة الشعب من ولد فاتح مصر وحاكمها العام عمرو بن العاص صادرا في ذلك عن شعاره التعايش السلمي وتقديره لقيمة الإنسان، وهو ما جاء في الآية الكريمة: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”.
إن الإسلام له مدنيته الخاصة، وهي فوق المدنيات ولكن كِتاب هذه المدنية ما زال لم يُكتب منه حرف!..
العلامة عبد الله كنون
دعوة الحق العدد الأول السنة الخامسة
ربيع الثاني 1381- أكتوبر 1961

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *