….نعم، إن حال المسلمين اليوم مع عقيدتهم وشعائر دينهم وأمور دنياهم تستدعي الكثير من التأمل، فهم اليوم يعانون من مطرقة الإفادة الصقيعية، وسندان مكرهة الانسراب مع نزواتها المتوحشة، فعددهم الغفير يفر من الموت فرارا، ويتعلق بأذيال الحياة حتى ولو جاء تحصيل أنفاسها المنفوسة على أنقاض العرض والمروءة، وركام الدين، وكرامة الانتساب، والانتكاس عن فطرة الأصل القويم وصلادة الإيمان القديم..
أجسادهم قد شابتها أوضار الضعف والانبطاح، وحضارتهم قد مستها ضراء موات روح البذل والفداء، فكم يا ترى والحال هكذا من خسارة رآها أهل الإفك بعين الربح؟ وكم كبوة عدَّها أهل البهتان تصعدا؟ وكم من رسوب ألبسه المدلسون حلة النجاح ووزرة الفلاح؟..
وإقرارنا بهذا كله وزيادة، وتسليمنا بأن الخرق قد اتسع على الراقع، وشكوانا من غياب حمرة الحياء، وصفرة الوجل، وتضييع الأمانة، وتخوين الأشراف، وصعود سهم الرويبضة في بورصة القيم الزائفة، وتطعيم نوع من “الإسلام” بنكهات التنوير ومنسمات الحداثة، وحمل المتعالمين الجدد ألوية التطويع باسم التطبيع، وبيارق الاحتلال باسم الاعتدال، وأسمال الابتداع باسم المحبة والاتباع، ونحن بين دروب هذه الأيام الخداعات، نواجه أصنافا من الدعاوى الاستفزازية التي تستثير الحليم، ويطيش من ابتسارها لب التقي الحكيم.
إقرارنا بهذا كله وزيادة، لا يعني ولا يمكن أن يعني أن أهل الحق قد نالهم شيء من القنوط، ومسّهم أعوان الشيطان بنصب وعذاب، فاختاروا مغادرة خنادق المواجهة، وركنوا إلى تشنيف آذان الناس بالاسترجاع والحوقلة، وسلّموا الألسن والأقلام إلى جيل الإخلاد إلى الأرض، المنسلخ عن آيات ربه الذي بات همُّه الأول والأخير إرضاء الآخر، وبناء معالم الثقة والاطمئنان في نفوس دعاة التثليث، وعمّار الأديرة وشيوخ الزوايا الحادة والقائمة على بث سموم الشبه، والنفث في عقد البدع، وزرع ألغام المحدثات…
إقرارنا بهذا كله وزيادة، لا يعني ولا يمكن أن يعني أن حراس الحق قد أحاطت بهم دائرة السوء التي ما فتئ يحدد شعاعها ومركز قطرها، كتاب ومرتزقة فكر أرباب مجلات، وإن شئت فقل: خرق بالية، وأدمة نتنة، يأنف القانع والمعتر أن يتبول على محبورها الموبوء، فكثيرا ما يتساءل أهل الغيرة والحياء عن مقاصد هذه البثور الطفيلية التي صار موضوع الجنس صورة وسطورا، عماد واجهاتها الملغومة، ولا إجابة غير أنهم يسعون إلى بث روح اليأس والقنوط، وتصوير الواقع لأجيال السباق واللحاق بصورة سوداء قميئة، توحي للبعيد والقريب أن عين الإسلام قد صارت أثرا، وأن زمام الأمور قد آل مآلها إلى بني علمان، وشرذمة من النسوان..
صورة، لسان حالها ينثر شعرا ينعي حضارة الإسلام، ويؤبن مشروع توهين عرى الدين في قلوب الموحدين، واجتثاث مادة حياته من صدور المخبتين.
وإقرارنا بهذا المقصد وزيادة، لا يمنعنا من فتح باب الرهان بالتي هي أحسن، وحفر خندق المدافعة بالتي هي أقوم، لكي نقارن مقارنة “كمٍّ” لا كيف، بين الغث والسمين، وبين الزبد وما ينفع الناس، مقارنة تفتح أمام حراس الحق وفرسانه المرابطين عند ثغوره هامشا من الكر والجراءة المنضبطة، وهم يواجهون ابتداعا سخائم التكفير، ورعيل الخوارج الجدد.
لا يرون مغرب الإسلام إلا بعين واحدة ركِّب في بؤبؤها عدسة مكبرة موجهة بفعل فاعل صوب هذه القاذورات التي كبر جِرمها، وتعاظم جُرمها من المهرجانات المتفحشة، وربا الفضل والنسيئة، وسفاح الجاهلية الأولى، وانتشار بريد الزنا ورقية الشيطان، وليس العيب في هذا التوجيه إذا كان الباعث منه الغيرة على حمى الدين، وبغية النقد الذي مبناه على إنكار المنكر والدعوة إلى المعروف بضوابط الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن. أما أن نكيف العين على رؤية الشر حصرا وقصرا لتسويغ بدعة الهجر والتكفير، ومصيبة استباحة أموال وأعراض وأرواح الموحدين العصاة، فهذا مما أجمع على خلافه جمهور أهل العلم وفرسان المعرفة، وانفرد بالشذوذ عنهم شرذمة من الجهلاء أتباع ذي الخويصرة، وأشياع أبي لؤلؤة المجوسي…
مقارنة نكمم بها أفواه الصغراء الذين تسفلت أقلامهم في النقيصة، وتورعت ألسنتهم في القذف، وتكدرت باحات نواصيهم بخرص الظنون، حتى صار المعروف عندهم منكرا، والمنكر معروفا.
مقارنة نبني من خلالها معادلة بين رجحان الصدق وسمو الحق، فهم يقولون: إن موازينهم الخاسرة قد بلغت هالة جموعها مئات الآلاف استدلالا على نجاحها، ورضي الناس عن بضاعتها، ونحن نرد: أن موازين القسط عندنا أيام تراويح الخير، ورمضان العتق من النار، تتجاوز فيها الصفوف عتبة الألوف، وسقف المألوف، حتى تضيق المساجد والأزقة والشوارع بأهل القيام والتهجد.
ثم يقولون: أن مريدي موازينهم الخاسرة ينفقون الدراهم، ويركبون زحمة الحافلات للالتحاق بفضاء الفرجة وركبان المشاهدة، ونرد قائلين: أن لنا موازين حق، أيام الحج يحتاج فيه الطالب الراغب فوق ما يجود به من آلاف الدراهم إلى منخل القرعة لضبط سيل الخير، واحتواء أرقام البر.
ثم يقولون: أن بنيانكم قد تزعزع، وقد التمس العلم عند الأصاغر، ونرد عليهم: أن هذا من أشراط الساعة، ولكن كيان علمنا محفوظ، يحمله من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
ثم يقولون: أن ما تدعونه منهجا حقا، قد ضاقت دائرة سطوتنا حول رقاب معتنقيه، فنقول: ذلك أمر الله الغالب كونا وشرعا، ومن تجليات غلبته ما رواه الصحابي أبو عنبة الخولاني عن مربي البشرية بلفظ: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة”، ذلك الغرس الموعود بالنصر والظهور، وميراث الأرض والتمكين، وذلك غرس الله الذي لن تدسوه الأقدام، ولن تنال من صفاء عقيدته الأقلام، ولن تدنس من سمعته عبارات اللئام.
ألا فامكروا كما شئتم، وأنفقوا ذات اليمين وذات الشمال، فإن لكل نهر مصبُّ، ولكل حركة عطب، ولكل نار دخان وحطب، ولكل جهد نصب، ولكل إنفاق في سبيل الصد عن صراطه المستقيم، وإطفاء سراج نوره القويم، حسرة وهزيمة وتولية دبر، وذلك وعد الله للغرباء في أعينكم أهل الأنس بالله، قلتهم كثرة، وكثرة سواهم غثاء وزبد، الحق جماعة، وصاحب الحق أمة ولو كان وحده.