في اجتماع للَجنة المخدرات التابعة للأمم المتحدة أواخر سنة 2020، قامت المملكة المغربية بالتصويت لصالح اعتبار نبتة القنب الهندي “الكيف” مكونا علاجيا طبيا، وذلك إلى جانب 27 دولة، وبعد هذا التصويت، أصبح القنب الهندي خارج قائمة المواد الأكثر خطرا، واستندت اللجنة الأممية، في تصويتها ذاك، إلى توصية منظمة الصحة العالمية التي أصدرتها منذ أكثر من عامين، والتي أعادت من خلالها تعريف درجة خطورة هذه النبتة، وبهذا تمت إزالة القنب الهندي من الجدول الرابع الخاص “بالمواد المخدرة ذات الخصائص الشديدة الخطورة والتي ليست لها قيمة علاجية كبيرة”.
في هذا السياق قررت الدولة القيام بتأميم “الكيف” وسيدخل هذا القرار حيز التنفيذ مباشرة بعد المصادقة على مشروع القانون الخاص به، واستيفائه للمراحل القانونية الشكلية، وستُحدث الحكومة بموجبه وكالةً وطنية لتقنين الأنشطة المتعلقة بالقنب الهندي، يوكَلُ إليها إصدار الرخص وسحبُها وتجديدُها، وتسهر على مراقبة مدى احترام الأجهزة المختصة لتطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمؤسسات العمومية، التي سينيط القانون بها مراقبة وتنظيم عمليات إنتاج “الكيف” وتسويقه وتصديره، وتخضع هذه الوكالة الوطنية لوصاية الدولة ومراقبتها المالية.
وما يهمنا في هذه المقالة هو أن نناقش الموضوع من زاويتي المشروعية والمحاذير؛ لذا، لن نناقش أهمية الفوائد الاقتصادية والمالية التي سيجنيها المغرب بتفصيل، ولن نتطرق لعلاقة الموضوع بمنطقة الشمال وقضية التهريب المعيشي المرتبط بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، ولا بغير ذلك من القضايا التي يمكن حلها بطرق ومشاريع تنموية أخرى لا تهدد صحة المواطن ولا دينه.
فالدولة في قضية “الكيف” صدرت في مشروع تقنينها له عن مخرجات سياسة الأمم المتحدة فقط، وعلى وجه الخصوص منظمة الصحة العالمية، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن دور المؤسسات الدستورية التي يناط بها التدخل في مثل هذه القضايا، وعلى رأسها المجلس العلمي الأعلى والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
ألم يكن من المفروض على الحكومة أن ترجع إلى مؤسساتنا الوطنية قبل التصويت في اللجنة الأممية الخاصة بالمخدرات وقبل تقديم مشروع القانون المذكور؟
وهل قرار تقنين زراعة هذه النبتة الخبيثة سيغير حكمها الشرعي؟
إن القضايا المتعلقة بـ”الكيف” بوصفه مادة أساسية في صناعة المخدرات، هي قضايا تدخل في صلب اختصاص المجلس العلمي الأعلى ثم المجلس الاقتصادي والاجتماعي، وعلى كل المؤسسات بما فيها الحكومة أن تقوم بالتماس استصدار فتوى من المجلس العلمي الأعلى، تؤطر عملية التقنين لأغراض طبية أو تجارية بعد تكييفها من الوجهة الشرعية، أما حكم اعتمادها في صناعة المخدرات فحكمه لا يحتاج إلى فتوى، إذ الإجماع على تحريمه قائم واضح.
فالمشروعية في المغرب لا تعتمد فقط على استصدار القوانين والتصويت عليها، بل يجب أن يكون الأساس مشروعا منضبطا بأحكام الشريعة الإسلامية، وهذا دور علماء المجلس العلمي الأعلى.
أما الاستناد إلى توصيات الأمم المتحدة ومنظمة صحتها العالمية، فيأتي في الدرجة الأخيرة، وهو مشروط بعدم مخالفة الشريعة الإسلامية والقوانين الوطنية، كما هو منطوق نصوص الدستور المغربي.
فاللوبيات المرتبطة بتجارة المخدرات في العالم نشطت في قضية القنب الهندي “الكيف” ويبدو أنها نجحت في سعيها، لذا رأينا منظمة الصحة العالمية تتخلى عن تصنيفه مخدرا شديد الخطورة وتعترف بأن له قيمة علاجية كبيرة على عكس ما كانت تنص عليه قوائمها، الأمر الذي استندت إليه الحكومة المغربية في تشريعها لقانون يروم استباحة زراعته وترسيم الاتجار فيه، مما سيفتح المجال فسيحا في وجه إباحته للاستهلاك العام بمقتضى القانون.
خصوصا وأن المغرب يستفيد -حسب وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها حول المخدرات في المغرب الصادر في مارس 2017-، من عائدات ضخمة من زراعة القنب الهندي “الكيف” حيث ادعى القرير أنها تمثل 23 في المائة من الناتج القومي الخام، الأمر الذي فندته جريدة «ليكونوميست» المغربية، والتي أعربت حينها عن اندهاشها للتقرير الأمريكي بشأن تقديره لنسبة أموال المخدرات في الناتج القومي الخام، في حين تحدث عدد من الخبراء عن قيمة عائدات المخدرات وجعلوها تعادل 8 في المائة من الناتج القومي الخام، والتي تساوي حوالي ثمانية مليارات دولار، ورغم ذلك تبقى نسبة 8% مرتفعة للغاية، حيث تتجاوز إنتاج الفوسفاط وتقارب عائدات السياحة وتحويلات المهاجرين.
ومن باب المقارنة، “فالمخدرات لا تشكل سوى أقل من 2% من الناتج القومي الخام لدولة مشهورة بالمخدرات مثل كولومبيا. وبهذا يكون المغرب أول دولة في العالم تشكل المخدرات نسبة عالية من اقتصاده”.
وهنا نسائل المؤسسات الدستورية خصوصا تلك المسؤولة عن حفظ الملة والدين، لماذا تترك المواطن المغربي يواجه اللوبيات الاقتصادية والميولات السياسية بأيديولوجياتها المختلفة والتي يناقض بعضها ما جاء به الإسلام من عقائد وشرائع؟
قد يرد مناصرو استباحة زراعة القنب الهندي بأنها واقع لا يرتفع، وأن تقنينها إنما هو لأغراض فلاحية وتجميلية وطبية، ولا علاقة لها بالمخدرات وسوقها وترويجها.
والجواب على ذلك يكون بالاستناد إلى الواقع أيضا حيث إن كل ما ينتجه المغرب من نبتة القنب الهندي “الكيف”، إنما يستعمل في تصنيع المخدرات وليس شيئا آخر، فكيف يمكن أن يغير هذا السلوك الاجتماعي الاقتصادي الصناعي، ليصبح منتوج القنب الهندي لا يتعدى ما نص عليه مشروع القانون؟ هذا يعتبر من قبيل المحال.
ثم أين هي مؤسسات الدولة التي تصرف الملايير في وضع المخططات والاستراتيجيات؟
لماذا لا تضع المشاريع التي تستهدف القضاء على الخمور والمخدرات ولو على المدى الطويل؟
إن تقنين زراعة القنب الهندي سيزيد من إنتاج المخدرات واستهلاكها، ويمكن قياس قضيته على قضية الخمور في المغرب.
فالقانون يحرم على المغربي المسلم أن ينتج الخمر أو يبيعه أو يستهلكه، ويرخص في ذلك لغير المسلمين وللسواح فقط.
فما هو واقع الحال يا ترى؟؟
على أرض الواقع، نجد أن جل ما ينتج من خمور في المغرب إنما يسكب في بطون المسلمين المغاربة، هذا ناهيك عما يُستورد منها، حيث يصل عدد نقاط بيع خمر الجعة أو “البيرة” في المغرب إلى 60 ألفا، بمعدل 4 نقاط لكل 1000 نسمة بالوسط الحضري، في حين يبلغ المعدل بفرنسا نقطة واحدة لكل 10 آلاف نسمة، علما أن عدد سكان فرنسا يبلغ 67 مليون نسمة، حسب دراسة للمهندس نور الدين بلفلاح.
وذكرت إحصائيات مستوردي الخمور بالمغرب أن استهلاك زجاجات خمر “الشامبانيا” وصل سنة 2008 إلى 200 ألف وحدة، وكشفت الشركة السويسرية نفسها أن المغاربة استهلكوا في سنوات 2017 و2018 و2019 ما يعادل 310 ملايين لتر من خمر الجعة، أي ما يعادل 103 ملايين لتر في السنة، وهو ما يعني أن كل مغربي يستهلك سنويا 3 لترات.
وانتقلت كميات مشروبات الخمر المستوردة من أوروبا على وجه الخصوص، وباقي الدول، من 24.27 ألف طن، في الفترة الممتدة ما بين يناير ونهاية شهر نونبر 2018، إلى 28.7 آلاف طن في الفترة نفسها من العام الماضي (2020).
فهل أغنت القوانين المنظمة عن المغاربة شيئا من تدمير الخمر للأسر والممتلكات، وإزهاق الأرواح وارتفاع قتلى حوادث السير الناتجة عن السكر المفرط، والوفيات الناتجة عن الأمراض المرتبطة باستهلاك الخمور؟
الجواب: لا!
فقد ذكرت منظمة الصحة العالمية في مجلتها (عدد شتنبر 2010) أن الخمر “يقتل 2.5 مليون شخص سنويا، ويعد الخمر متورطا في ربع جرائم القتل على الصعيد العالمي”. وأكدت الأمرَ نفسه في المغرب المندوبيةُ العامة لإدارة السجون حيث أوردت في عرضها لدراسة ظاهرة العود، (في 25 شتنبر 2019)، أن أسباب ارتكاب الجرائم في حالات العود، يكمن بالدرجة الأولى في “الإدمان على المخدرات إذ يمثل أهم الأسباب بنسبة 30.1 في المائة، ويليه الإدمان على الكحول (الخمر) بنسبة 22 في المائة”.
وذكرت الدراسة كذلك أن الاتجار في المخدرات يشكل نسبة 23.4 في المائة، كما تمثل الاعتداءات 19.1 في المائة، أي أن الإدمان والاتجار في المخدرات يشكل 53.5 في المائة من أسباب العود إلى ارتكاب الجرائم.
فإذا كان هذا هو حال المغاربة مع المخدرات وهذا هو واقعهم، فهل يرجى بعد تقنين زراعة “الكيف” وترويجه أن تعالج هذه المعضلة التي نعتبرها من أهم أسباب التخلف والجهل والجريمة والفقر؟
إننا اليوم في حاجة إلى نقاش معضلة تناول شبابنا للمخدرات التي تروج بالأطنان في مختلف ربوع المملكة، بل تروج في محيطات المدارس والجامعات، إننا في حاجة إلى وضع خطة لانتشال شباب المجتمع المغربي من مستنقعات الخمور والمخدرات، علما أن هؤلاء الشباب يمثلون الأساس في كل نهضة مرجوة، وكل تعليل لتسويغ عملية تقنين الخمور والمخدرات بدعوى توفير مناصب الشغل وتكثير المداخيل التي تجنيها الميزانية العامة من ورائها هو باطل، خصوصا في غياب دراسة اجتماعية اقتصادية مشتركة بين الوزارات والمؤسسات المعنية، وهذا للإلزام فقط بغض النظر عن حكم الشرع في ذلك.
إننا بسننا لمثل هذه القوانين التي تناقض مقومات هويتنا وعلى رأسها الإسلام، نكون ماضين بثبات في السياسة التي رسمها الاحتلال وتمت المحافظة عليه بعده من طرف “وليدات فرنسا”، ولنقرأ ذلك في نص تاريخي بليغ لأحد أبرز منظري الاحتلال الفرنسي وهو قانونيٌّ كبير من دهاقنتهم، كان يرسم الخطط ويدرس النخب، ويباشر التنفيذ على أرض الواقع، وهو جورج سوردون الذي جلس مرة (1) “يتحدث إلى جمهور كبير من الضباط ورجال الاستعلامات الفرنسية، وكان على رأس الحاضرين المقيم العام لوسيان سان؛ وكان ذلك بمدرسة اللهجات البربرية التي يطلق عليها اليوم(2) معهد الدراسات العليا بالرباط(3) بتاريخ 21 يونيو 1929 فمن جملة ما قاله في محاضرته الطويلة:
“إننا نحن الفرنسيين لا نجبر الشعوب التي فتحناها على الإذعان لنا والاندماج فينا مرة وبالقوة! وإنما نُؤمِّل أن نرى هذه الشعوب تندمج من نفسها في العائلة الفرنسية. وأن الاندماج من طريق القانون مفيد جدا في نظري، فكلما تقربت القوانين المحلية (الأهلية) من قوانيننا نتجه نحو اندماج الأجناس، الذي هو وحده وسيلتنا للمحافظة على الأمن وأساس طمأنينتنا وخلودنا؛ وليس علينا إلا الشروع في العمل بعزيمة وثبات، فلتكن لدينا عزيمة صادقة على تخليد عائلتنا، ولنُعْمِل كلَّ الوسائل لبلوغ هذه الغاية”.
فها نحن نستكمل رويدا رويدا تبديل منظومة التشريع لتلائم أختها في فرنسا والغرب، وذلك تحت إمرة منظمة الأمم المتحدة الراعية لعولمة النموذج العلماني الغربي؛ فهل ستقوم المؤسسات التي أنيط بها حفظ الملة والدين بمسؤولياتها الكاملة حفاظا على صحة ودين وعقل المغاربة وحماية للهوية المغربية من التفكيك والتفتيت؟
هذا ما نرجوه.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المكي الناصري؛ فرنسا وسياستها البربرية ط2 ص80-81
(2) أي في سنة 1932.
(3) حاليا هي كلية الآداب بالرباط المتواجدة قرب باب الرواح.