بيداغوجية البركة بين التنظير التربوي والتطبيق المنهجي عبد الرحمان بنويس

يبدوا لقارئنا الكريم من عنوان هذا المقال أن التعليم ارتبط ببداغوجية جديدة تدخل ضمن الإصلاحات التي عملتها الوزارة مؤخرا في الساحة التعليمية، لكن الحقيقة عكس ذلك، وإنما مرادي لفت انتباه القارئ بأهمية النظر إلى حالنا التعليمي، وخصوصا شأن بركة المرسومين المشؤومين، كما أهدف أيضا من هذا العنوان إثارة انتباه القراء إلى شغل اهتمامهم بما يروج في الساحة التعليمية، والنظر بشكل دقيق إلى الآليات التي ذئبنا نسمعها عن إصلاح التعليم والنظر فيها؛ هل هي موافقة للواقع أم هو ضرب من العبث!!!
فما الذي يقصد ببيداغوجية البركة في الجانب التربوي؟
وهل يمكن اعتبار هذه البيداغوجية مصاحبة للبيداغوجيات الحديثة المعمولة بها في التعليم؟
أم فقط هي طابع ارتجالي عشوائي يخم على ميدان التربية والتكوين بله التعليم العالي؟
وهل حققت غايات أو أهداف تؤشر باعتمادها كنظرية ذات أنساق معيارية؟
أو إن شئت فإلى أي حد يمكن اعتبار هذه البيداغوجية نظرية يصلح إنزالها على ميداننا التعليمي؟
قد لا أكون مضطرا للإجابة عن هذه الأسئلة بقدر ما أضع في ذهن القارئ إشكالية تتطلب منه البحث والتحليل العميقين لموضوعات التربية، وجعل ذلك ألما يخيم في ذهنه للتفكير في مآلية تجويد العملية التعليمية التعلمية، والحال هذه حبذت البدء بالإجابة عن السؤال الثاني فأقول؛ إن بيداغوجية البركة كما أحببت أن أسميها، هي إجراءات متسلسلة مصاحبة للبيداغوجيات التعليمية، سواء في المضامين أو الأهداف أو التعليم بالكفايات، لكن لن يكتمل الفهمُ، إلا إذا عُرِّفَ هذا المفهوم المركب “بيداغوجية البركة” كلمة، كلمة.
البيداغوجية كما هو معرف في الحقل التربوي: هي مجمل الأنشطة التعليمية – التعلمية التي يتم ممارستها من قبل المعلمين والمتعلمين ، كما تعرّف أيضا بأنها “حقلٌ معرفي قوامهُ تفكير فلسفي وسيكولوجي في غايات وتوجهات الأفعال المطلوبة ممارستها في وضعية التعليم. وهي أيضا طريقة في التدريس أو إجراءات وتقنيات معينة، يتم توظيفها في وضعية معينة”.
أما مصطلح البركة، فبالرجوع قليلا إلى اللغة نجد “العرب تقول باركك الله وبارك فيك، والمتبارك: المرتفع. وقال الزجاج: تبارك تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة. وروى ابن عباس: ومعنى البركة الكثرة في كل خير، وقال في موضع آخر: تبارك تعالى وتعاظم” .
وإذا تأملت معي أيها القارئ هذه المعاني؛ تجدها تدور حول العظمة، والتنزيه والتقديس والبركة، وهذه العبارات ومثيلاتها يمكن أن تدل على شيء؛ وهو أن الله تعالى يحفظ هذا التعليم من منزلقات خطيرة، ولا ننفي أن حاله لا يبشر بخير، خصوصا إذا عرفنا مسار الإصلاح الوطني تاريخيا مقارنة مع مخرجاته، وقد يكون أبرز دافع لذلك؛ أن المنظومة التعليمية لم تجهّز بعض الآليات والأساليب التي يمكن أن تطور وتحسن من أداء النشاط التعليمي التعلمي.
وبهذا السبب يضطر المدرس أن يجتهد بفكره وملكته في بيداغوجية البركة -عفوا الكفاية- التي وصل إليها دماغه، وبما يسد به الفراغ أو النقص الذي يعاني منه في الفصل، والبركة والاجتهاد هي معالجة النقص الحاصل، ولذلك تجد خوضا عشوائيا في تنزيل البيداغوجيات التعليمية المستوردة، فقد يكون إما لغياب ظروف مقامها الحقيقي، وقد يكون السبب قلة زاد بعض الأساتذة وخمولهم في البحث عن كيفية توظيف البيداغوجيات الحديثة في نشاطهم، وإما لعدم إيمانهم بها تماما، أو لتعصب كمالا، وخمولهم ينأى بهم عن بلوغ أقصى جهد ممكن، وبالتالي يقتصر على بركته التي بين يديه، وهذا موطن ضعف قد نقع فيه إن لم نكثر الاطلاع ونجدد النية.
لعل الكلام السابق لا يضرب عرضا المجهودات القيمية التي يقوم بها أساتذتنا الفضلاء، فمنهم الذي ينفق بماله، ومنهم الذي يزيد من وقته… ومن الخير أن نعترف لأهل الفضل، وليس الشاهد كالسامع، فكم ممن يدرس مثلا في مناطق قروية أو نائية أو في جبال خالية، وهضاب بالية وسهول سارية، بعيدة عن ما يسمى بالعالم الافتراضي؛ الذي يقرب الصورة الحقيقة إلى ذهن المتعلمين، خصوصا إذا استحضرنا طبيعة المقررات وخضوعها لبيداغوجيات الكفايات ومتطلباتها، فيجتهد المدرس بما أتاه الله من البركة، ليوصل إلى تلامذته الشرح التقريبي البياني شيئا فشيئا وقليلا فقليلا كما قال ابن خلدون ، وخاصة إذا ما ورد في المقرر كلمة أو نص يتحدث عن شيء لم يعاينوه أو يشاهدوه، وفي الغالب فالطبع يغلب التطبع كما يقال، فقد يصير المدرس الذي كان مجتهدا إلى تلميذٍ مجتهدٍ، إذا غابت عنه هو الآخر الوسائل المعينة على الفهم والإدراك، لأنها هي المصادر التي تزوده بالمعارف فيحيي بها ذهنه ويجدد بها أفكاره.
إن المتأمل أو المزاول لمهنة التدريس لا شك أنه يجد بيداغوجية البركة في كل ما يمس بصلة للفصل وما حدا به، ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب بل قد تجدها حتى في المؤسسات التعليمية من لدن جميع الفاعلين التربويين، ولعل السبب في ذلك عدم توفر الإمكانات اللازمة التي تتيح لهم العمل بشكل يُؤمن عليه، وقد يكون لغياب رؤية واضحة تحدد المخرجات المرغوبة، وقد يكون السبب لضعف المدخلات داخل المنهاج الدراسي التي تسهم في تجويد المعرفة وتحيين الأفكار.
فالعمل وفق الظروف المتاحة هي التي تخلق وسائل ذاتية في إكساب المتعلمين معارف قد تكون نيرة، إذا وافقت الجانب السيكولوجي والمعرفي والاجتماعي للمتعلمين، وقد تكون سلبية في حالة إذا ما غابت تلك المسائل عن المدرس، وبالتالي كمحصلة تربوية؛ نتوقع أن ننتظر أجيالا أو أطرا مستقبلية تؤدي نفس الدور الذي تربت عليه وهذه طبيعة الإنسان، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم.
إن تخريج أطر متشبعة بروح القيم والمواطنة الحرة، وقادرة على حمل هم الأمة ومسايرة الواقع، لكفيل بتجديد النية مع الله أولا ، ثم إيجاد الحلول الضرورية التي تخرج بنا من الضيق إلى النور والانفتاح على المستقبل، وذلك من خلال عزم المنظومة التربوية رغبتها في إصلاح عامٍ وشمولي يستهدف صنعَ الوعي لدى الأساتذة والأطر التربوية، وكافة الفاعلين بدعم ومساهمة جمعيات المجتمع المدني، مع تحسين المرافق المعينة على تحسين العملية البيداغوجية والديداكتيكية، دون إغفال النظر عن القيام بأبحاث تربوية ميدانية في جميع المناطق الترابية، وتشجيع وتحفيز الأساتذة عن القيام ببحوث تدخلية تحسن من مستوى أدائهم، وحثهم على القيام بأعمال تشاركية وفق إطار التكوين المستمر والتبادلي.
فجمع المشاكل التعليمية والأزمات التربوية لأطراف العملية التعليمية التعلمية، لا شك أنه يحلُّ عنا ضيمَ بيداغوجية البركة التي أنهكت مستوى تلامذتنا وطلابنا، بله حتى أساتذتنا – والله المعين – فإذا تحقق ذلك، فإن هذا لهو البيان المبين، الذي يدلنا على معرفة الواقع رصداً وإحصاءً، وهي رغبة هادفة في تعميق الدراسات للبحث عن الحلول الإجرائية الفعالة التي تُخرجنا من هذا المأزق، وحينها نكون أمام غدٍ مشرقٍ.
ولا ننسى أن بالبحثَ العلمي يمكن أن نرتقي به إلى صفوف الدول المتقدمة، ليس في التعليم فحسب، بل في جميع المجالات، كما يمكننا أن نزود الأساتذة والمعلمين بتكويناتٍ بديلة تطور من أدائهم وتنمّي قدراتهم ،وتعلمهم كيفية التدريس بالبيداغوجيات والمقاربات الإسلامية والحديثة، وإخضاع الأساتذة المكونينَ للتكوين، لأنهم هم الترجمة الحقيقية لأساتذة الواقع، مع تمديد مدة تكوين الطلبة الأساتذة في المراكز المخصصة للتكوين حتى يتشبع المدرس الجديد بالأفكار التي تؤهله لولوج هذه المهنة، ثم ليكون على علم تام بأهم الوثائق الضرورية التي تساعده في ممارسته التطبيقية والمستجدات التربوية.
أما بالنسبة للمقررات الدراسية يجب أن تُعطَى لتأليفها مدةً كافيةً بما يتوافق ومتطلبات التعليم والتعلم، لا أن تُطْبَخَ على عجلٍ، بل أن تُلمس موضوعاتها القيمَ الإسلامية، وأن تنهل من عمل السلف الصالح، ولن يتأتى هذا إلا إذا أوجدنا مؤسسات تعليمية تتوافق والتجديد الحضاري للأمة الإسلامية، ومتوفرة على الوسائل والأدوات اللازمة التي تساعد على تجويد تعليمنا وتعلمنا، مع تشجيع الكفاءات العلمية والمنظرين التربويين الخلص، كل هذا إذا حاولنا حسن استثماره في الواقع، وبنائه على دراساتٍ ميدانيةٍ، أثناءها أكيد أننا على الإصلاح الحقيقي وأننا على المسار الصحيح.
لكن، وفي ظل بقائنا على الإصلاح التنظيري والافتراضي المسطور بغض النظر عن واقع الحال، فإن تعليمنا يبقى حبيس بيداغوجية البركة، وقل من نجده يحسن تنزيلها منهجيا، والعمل وفق الأهداف التي يؤجرئ لها تطبيقيا.
اللهم سددنا تعليمنا العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *