يفترض في التطور الرقمي الذي يتقدم يوما بعد يوم أن يكون خير معين على التحصيل العلمي، لما يختصر من المسافات ويحفظ من الأوقات، ويذلل من الصعوبات، لكن المتأمل لواقع مدمني وسدنة العالم الرقمي سيما شق التواصل الاجتماعي يرى خلاف المنشود، ويتوجس من الأمر خيفة، ولا يشاهد إلا “الذين هم في خوض يلعبون” بهدر الأوقات وتضييع الأعمار في قضايا ومسائل لا يذكر لها أثر، تؤثر سلبا على التحصيل العلمي والتكوين المعرفي، الذي كان في سنوات خلت سمة بارزة لطلاب العلم والمعرفة، يوم كان لسان حالهم: “وخير جليس في الزمان كتاب”.
بيد أن الواقع يشير إلى أن المواقع الاجتماعية على وجه الخصوص تخطف طالب العلم أو تهوي به في هوايات سحيقة، وبصره نحوها حديد؛ فبعدما كان طالب العلم يخصص الفراغ من وقته للقراءة والمطالعة في مختلف وشتى الفنون، لتمتين رصيده المعرفي وإحياء النفس والقلب، وشحذ الذهن واللب، بما يبعث على المكارم، صار اليوم يسعى سعيا حثيثا لمغادرة حصصه وترك واجباته بحثا عن العالم الافتراضي الذي لا يمسه فيه لغوب، طالبا سعادة وهمية سرعان ما تضمحل بصرفه النظر عن الشاشة فلا يجد إلا الأسى والضيق والحسرة في النفس، كثيرا ما يغيب عنه سببها.
وزيارة لحرم الجامعات وساحاتها العلمية المفترضة، ومكتباتها، وأحيائنا الجامعية تخبرك نبأ اليقين بما آل إليه الأمر من انهماك يواصل فيه الليل بالنهار، مع هواتف ذكية لا تكاد تشغل إلا في صوتيات ومرئيات المجون، أو تواصلات تجاوزت حدها، وصارت غاية بعد أن كان يفترض أن تكون وسيلة.
ولم يقتصر الحال على الانشغال بالمواقع الاجتماعية خارج الحصص الدراسية بل تعداه إلى اختلاس النظرات بين فينة وأخرى في محادثة أو مشاهدة، داخل الحصص على مرأى أو غفلة من الأستاذ، وهذا منذر بخراب تحصيل “الذين هم في غمرة ساهون”.
وإذا كان ذلك جاريا في المراحل التي قد يضبط فيها الأستاذ تلاميذه لقلة عددهم في حجرة دراسية قريبة زواياها؛ فإن ذلك يتعذر مع طلاب الجامعات ممن استطابوا الدعة واستوطؤوا مركب العجز، الذين يحضرون أشباحا بلا أرواح، ويجلسون على كراسي تسجيلا لحضورهم، مع غياب عقولهم وانشغالها بالعالم الافتراضي والتواصل مع العالم الخارجي داخل الحصص الدراسية بلا رقيب ولا حسيب، إلا من رحم ربك ممن “ألقى السمع وهو شهيد”، وتكاد تجد المحاضر يكلم أجسادا لا أرواح لها، ولا يرى صدى لخطابه إلا من جدران القاعة التي تردد صوته، فأي مستقبل لهذه الفئة وكيف سيكون عطاؤها العلمي يوم يكون زمام الأمر بيدها !.
بقدر ما يتطور العالم نتخلف نحن لانشغالنا بتشغيل ما ينتج ولو على غير الوجه الأمثل، ونلهث وراء سراب خادع، موهمين أنفسنا أن التقدم في امتلاك أحدث ما أنتج.
إن التقدم لم يكن يوما في شراء أحدث ما وصلت إليه التقنيات، بل في صناعته، وإعداده، وليس الاقتصار على استهلاكه، وبهذا يمكن أن تكون التقنيات وبالا علينا لكوننا لا نسخرها في الغالب إلا في ضياع الأوقات، ويمكن أن ترجعنا قرونا إلى الوراء بعد سنوات، سيفتقد فيها العالم المتمكن في فنه ومجال تخصصه …”فاعتبروا يا أولي الأبصار”.