أولا: نقد موقف ابن رشد من السنة النبوية:
وثالثا إن قوله يتضمن تدليسا وتعارضا وتغليطا، وذلك أنه -أي ابن رشد- زعم أن الفرقة الناجية التي قصدها الحديث هي الفرقة التي تأخذ بظاهر النص، بمعنى أنها لا تُؤوّل الشرع تأويلا تحريفيا، وتفهمه وفق التأويل الشرعي، لكنه ناقض نفسه عندما زعم أن تلك الفرقة -التي سلكت ظاهر النص- تمارس التأويل أيضا بطريقة باطنية وتُخفيه ولا تُصرّح به للجمهور، وهذا العمل ينفي عنها أخذها بظاهر النص، فلو أخذت به ما أوّلته تأويلا باطنيا!!. فهي إما أن تأخذ بظاهر النص فلا تُؤوّل ذلك التأويل، وإما لا تأخذ به وتُمارس التأويل الباطني التحريفي، فإذا أصرت على الجمع بينهما فهو تناقض ظاهر، يتفق مع طريقة ابن رشد المزدوجة الخطاب ذات الخلفية الأرسطية الباطنية.
وختاما لهذا المبحث يُستنتج منه أن ابن رشد لم يُعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم، ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية، ففاتته أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها. كما أن الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا، وأخضعه للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته.
ثانيا: نقد موقفه من مذهب أهل الحديث:
كان أهل الحديث هم ممثلو أهل السنة في القرن الثاني الهجري وما بعده، إلى غاية القرن الخامس الهجري حيث انقسم السنيون على أنفسهم في أصول الدين إلى سلف وخلف، فأما السلف فهم أهل الحديث، ومعظمهم من الحنابلة وقلة من الشافعية والحنفية والمالكية، وأما الخلف فهم الماتريدية والأشاعرة، فكان معظم الحنفية ماتريدية، ومعظم الشافعية والمالكية وقلة من الحنابلة أشاعرة، وبعد انقسامهم استمر أهل الحديث على مذهبهم في أصول الدين على طريقة الصحابة والسلف الأول، فما هو موقف ابن رشد منهم؟.
إنه جنى عليهم بالإغفال والاتهام، فأما إغفاله لهم فمن مظاهره: أنه أغفلهم كفرقة إسلامية كبيرة لها وجودها المستقل في المشرق والمغرب الإسلاميين، وتأثيرها الكبير على مختلف جوانب الحياة، فعندما تعرض لفرق عصره قال: أشهر الطوائف في زماننا أربعة، هي: الأشعرية، والمعتزلة، والحشوية، والباطنية وذكر منهم الصوفية، فلم يذكر أهل الحديث من بين فرق عصره، مع تأثيرهم الكبير على المجتمع المغربي والأندلسي زمن دولة المرابطين التي كانت على مذهبهم إلى نهاية دولتهم على أيدي الموحدين سنة 541 هجرية، وهو نفسه قد عاش عقدين من الزمن في دولتهم. فلماذا أغفلهم؟، يبدو لي أنه تعمد إغفالهم لسببين، أولهما إنه كان يعيش في كنف دولة الموحدين (541-668هـ) المعادية للمرابطين ولمذهبهم السلفي، فسايرها في هذا التيار، وثانيهما إنه لم تكن له معرفة كافية وجيدة بمذهب أهل الحديث تجعله يهتم به ويُقدره حق قدره، مما جعله يُهمله ويحتقر أصحابه ويستعلي عليهم بدعوى أنهم من عوام أهل العلم، وليسوا من أهل البرهان على حد زعمه.
ومع ذلك فإنه يبدو لي أنه لم يُغفل أهل الحديث إغفالا تاما ومحوا لوجودهم كطائفة مستقله بكيانها، وإنما ألحقهم بالطائفة التي سماها الحشوية، التي هي من الرعاع والمجسمة، والمُخلطين من عوام أهل العلم المنتسبين لأهل السنة، وإن صح هذا الاحتمال يكون ابن رشد قد أخطأ في ذلك خطأ فاحشا لأن أهل الحديث ليسوا من الحشوية، ولا من المجسمة، ولا من المعطلة، ولا من المؤوّلة، وإنما هم على مذهب الصحابة والسلف الصالح في أصول الدين.
وكما أغفلهم كطائفة فاعلة في المجتمع أغفلهم أيضا كمدرسة فكرية، فلم يذكر مذهبهم كمذهب مستقل له مواقفه الفكرية المتميزة، فعندما تطرق إلى موضوع صفات الله تعالى، ومواقف الفرق الكلامية من طريقة إثبات وجود الله تعالى أغفل مذهبهم، مع أن مذهبهم في الله تعالى وصفاته هو أصح المذاهب وأقواها حجة شرعا وعقلا.