أن يكون لك أبناء صالحون تقر بهم العين، وتسعد برؤيتهم النفس، وينشرح بصلاحهم القلب، أمر ليس من السهل بمكان، وغاية في ما يمكن أن يحققه الإنسان من نجاح في الحياة.
صلاح الأبناء لا يتحقق إلا وفق برنامج قائم على أصول إسلامية مسترشدا بتوجيهات القرآن والسنة، ولا يسعى إلى إنجاح هذا المشروع إلا من علم أن تربية الأبناء على الاستقامة على شرع الله أمانة في عنقه سيسأل عنها يوم لقاء الله كما قال عليه السلام: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، فيحرص على أن يكون ولده صالحا يؤدي الوظيفة التي من أجلها أخرجه الله إلى الوجود؛ ألا وهي وظيفة العبادة؛ التي هي كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فهي مستوعبة لجمع تصرفات الإنسان.
ومن تأمل القرآن رأى كيف تحدث عن مدى الهم الذي يحمله الأنبياء والمرسلون من أجل أن تكون ذرياتهم ذرية صالحة. فنوح عليه السلام يحاول جاهدا وبإصرار مع ابنه ليخرجه من الكفر وينقذه من الهلاك؛ «ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين…الآيات»، وهذا إبراهيم عليه السلام يقول: «رب اجنبني وبني أن نعبد الأصنام»، «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة»، وهذا يعقوب يجمع ذريته ويقول «لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون» ويقول زكريا داعيا ربه «رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء»، وامرأة عمران التي تدعوا ربها لمريم وتقول «إني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم»، وما وصية لقمان لابنه وهو يعظه تخفى على مسلم… وحدثنا القرآن عن عباد الرحمان وكيف يحملون هم الدعاء لأبنائهم فذكر ذلك عنهم رأسا حيث قالوا: «ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين»..
فالقضية إذن ليست ترفا ولا مسؤولية مستحبة، ولا حتى مسؤولية سهلة ميسرة فلو كانت كذلك لما حمل الأنبياء كل هذا الهم، ولا ما تضرعوا كل هذا التضرع من أجل صلاح أبنائهم، والرغبة في ذلك أن يجمعهم الله بهم في الدنيا على طاعته وفي الآخرة في جنته ودار كرامته، إذ صلاح الأبناء والذرية هو الضامن لذلك، وقد نبه عليه القرآن أيضا في غير ما آية كما في قوله جل ثناؤه «الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألثناهم من عملهم من شيء». والعكس بالعكس إذ التقصير في ذلك يورث الهلاك للذرية ومن يتحمل مسؤوليتهم؛ قال عز وجل «قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة» فجمع بين هلاك الرجل وذريته تنبيها إلى أهمية الحرص على صلاح الذرية وإعطائها الأهمية اللائقة تجنبا لسوء المصير.
عندما تتأمل الواقع وترى الانحراف يسري في جسد الناشئة بشكل مروع، يؤكد أن جل الآباء قد أزاحوا هذا الأمر من أذهانهم، وأن أمر تربية الأبناء تربية متينة على الإسلام لم تعد تستهو إلا القليل منهم. فنظرة عجلى إلى بيوت الله أوقات الصلوات تعطيك الخبر اليقين بخلوها من الأطفال والشباب وكأن أولئك الآباء الكبار الذين في المسجد ليس لهم ذرية، وما دام التفريط في الصلوات التي هي عماد الدين ومن المطلوب أن يحرص عليها الأبناء منذ سبع سنين من العمر بحرص من الآباء فلا تسأل عما دون الصلاة من العبادات والشعائر، ومما يحز في النفس أن أبناء المسلمين موجودون، بل وهم بجوار المساجد ربما يمارسون الموبقات.
إن تربية الأبناء والحرص على صلاحهم هو الضمان لدوام هذه الدنيا لتقام فيها شعائر الله، وتملأ بالصلاح وتتحقق عليها غاية الاستخلاف، لأن هذا الجيل من الكبار الذي يملأ المساجد ويقيم الشعائر سيذهب، وسيعقبهم هذا الجيل من الأبناء المؤسس على شفا جرف هار.
إن قضية صلاح الأبناء قضية جوهرية وركن أساس من أركان المسؤولية التي حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا. ويؤكد ذلك أيضا جملة النصوص الشرعية كتابا وسنة عن هذا الأمر وعدا ووعيدا وتوجيها وبيانا… وهي قضية من أصعب ما كلف به الإنسان المسلم، لأن صناعة الإنسان الصالح المتعبد لله المتجرد عن الهوى ليس من السهولة بمكان، ولو كان سهلا لما كان هناك داع لكتابة هذا المقال، وما كتب في الموضوع لا يحصره العد، لاسيما والأبناء تتنازعهم جهات عدة وشركاء متشاكسون، ولا يمكن التعويل على مدرسة تائهة، ولا ثقافة زائغة، ولا إعلام فاسد، ولا مجتمع مهتز قيميا وأخلاقيا. فهي مسؤولية تحتاج لتخطيط وتدبير وتعاون وجهد ووقت ليدرك الآباء بعضا من النتائج المشرفة في ظل قوة الصوارف والنوازع. وإنها لمسؤولية لا يهتم لها إلا رجل صالح وامرأة صالحة. إذ فاقد الشيء لا يعطيه، وتلك قضية أخرى مؤرقة.
فهنيئا لمن ذهب إلى لقاء ربه وترك خلفه من يحمل مشعل العبودية، صدقة جارية يتبعه أجرها ويجري عليه ثوابها، والويل لمن مات وترك خلفه ذرية تجري عليه بالسيئات وهو في قبره جراء تقصيره وتفريطه؛ والله المستعان.