حصيلة سنة دراسية كاملة بدأت بالبرنامج الاستعجالي مرورا بالترسانة الكبيرة من المذكرات التربوية والتي ليس فيها إلا التجريم والتحريم والتهديد والوعيد للمربي.. وكأنه خريج سجون أو ثكنات عسكرية لمكافحة الشغب وليس خريج معاهد للتربية والتكوين، وصولا إلى امتحانات كشفت عن ثغرات البرنامج التربوي والتعليمي.مجالس الأقسام تدعو إلى مراجعات تربوية وتعليمية
في الأسبوع الماضي عقدت مجالس الأقسام لقاءاتها المعتادة، لمدارسة نتائج التلاميذ والنقط التي حصلوا عليها، ولم يكن من المستغرب أن تكون الحصيلة متشابهة، سواء قبل ما سمي بالبرنامج الاستعجالي أو بعده.
مستوى ضعيف جدا، ونتائج هزيلة جعلت المسؤولين عن التخطيط للخريطة المدرسية يَنزلون بعتبة النجاح إلى 10/07 كمعدل للانتقال كما حصل في الثانوي الإعدادي مثلا.
وبدل أن يجلس أصحاب المذكرات المتناسلة والقرارات العنترية إلى طاولة المراجعات التربوية والتعليمية، إذ بهم أغلقوا أبواب مكاتبهم وأقفلوا أدراجها للتحضير للعطلة الصيفية، لتتكرر القصة من جديد مع مطلع العام المقبل إن شاء الله.
ويخرج علينا كالعادة مُحبّو الفرقعات الإعلامية يُحَملون التعليم ورجالاته مسؤولية كل بلاء يصيب العباد ويحل بالبلاد، الذين لا هَم لهم إلا إلصاق الشبهات بالمدرسة المغربية وإخفاء الإخفاقات السياسية ونشر الغسيل على الحبل التعليمي.
أبناء المغاربة بين مطرقة الميثاق الوطني وسندان البرنامج الاستعجالي
لقد روجت جهات معينة لفكرة الإجماع المغربي حول الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وهذا الأمر غير صحيح، فشرائح عريضة من المثقفين والأكاديميين والجامعيين وأهل الاختصاص انتقدوا الميثاق ومازالوا. ولا أحد يخفى عليه أن تطبيقات الميثاق كانت قهرا وعنوة، وأنه مُرر كما تمرر كل القرارات الأحادية ويروج لها النصر والتمكين. والمنهج الموضوعي والأمانة العلمية تقتضي أن نثبت للميثاق إيجابياته ومزاياه لكن بالمقابل نتهمه بالتبعية الممقوتة، ومحاولة تدجين المدرسة المغربية، وتكميم أفواه الجامعات، وتوريط أجيال بدون مخرجات -في ظل مدخلات سُطرت في الورق فقط- لا تستطيع إقتحام سوق الشغل ولا تفكر في الإنتاج، وتتنكر لدينها وهويتها ووطنها.
ثم جاء بعد هذا الميثاق البرنامج الاستعجالي الترقيعي، فأصبح التلميذ(ة) المغربي رهين تجارب مستوردة من القارة الأوروبية والأمريكية، فمن التدريس بالأهداف إلى التدريس بالكفايات والقدرات؛ وكأن العقل المسلم والعربي عاجز عن الإبداع والرقي الفكري.
فرق كبير إذن بين أن تبحث عن العلم وبين أن يُلقى إليك من “المستعمر”، ولهذا فكثير ممن يملكون مفاتح التعليم عندنا ارتضوا لأنفسهم أن يرضعوا من سم العولمة والعلمنة وانبهروا بمقررات القوم ونتاجهم الفكري والفلسفي؛ فأصبح الواحد منهم لا يتكلم إلا بهم، ولا يستشهد إلا بزعمائهم، والأصل أننا نحن أمة العلم والفكر والحضارة، وأسلافنا أخذوا بأسباب العلم فصنعوا حضارة فاقت حضارة القوم وأنتجوا وأبدعوا واخترعوا، أما حال كثير منا فاجتهدوا في نقل البرامج وإصدار القرارات فقط.
التلميذ المغربي والتميز في ظاهرة الغش
إن التحصيل من أجل الامتحانات فقط، هو الذي جعل الطالب يتمنى أن ينسى بعدها كل شيء، ويمزق دفاتره مع آخر يوم دراسي، لهذا وجب فصل العلم عن الامتحانات، ويا ليت أبناءنا وطلابنا يدرسون من أجل الامتحان، فهُم يرتادون الفصول الدراسية كما يرتاد أصحاب الوقت الفارغ -بزعمهم- المقاهي والملاهي، فالمؤسسات التعليمية أصبحت مرتعا للجريمة وتعاطي المخدرات والتدخين والتحرش والكلام الساقط، أما أيام الامتحانات فقد كفتهم التقنية الحديثة من تصغير للمقررات، وهواتف محمولة هَمَّ وغم الحفظ والفهم، والمضحك المبكي في كل هذا وذاك، أن الأستاذ يشرح لمن لا يسمعون، ويصحح لمن لا يفهمون، ويزداد القلم الأحمر احمرارا خجلا من أصفار تعقبها أصفار.. الامتحانات والفروض تحفيز وتنافس لا بد منه، لكن القراءة والدراسة وملازمة الكتاب والبحث عن المعلومة، هو الكنز المفقود، والحب الموؤود…
وقد طلعت علينا نشرات القناة الثانية بأخبار تضليلية تبشر المجتمع المغربي أن حالات الغش هذه السنة عرفت تراجعا كبيرا حيث وصلت إلى 400 حالة فقط في صفوف تلامذة الباكالوريا، غير أن المكتبات كشفت عن المخبوء، فقد تردد عليها مئات التلاميذ يقومون بعملية التصغير ونسخ المقررات بطرق أكثر دهاءا ومكرا: تقنية “الحروز”، تقنية التصوير المجهري، تقنية الكتابة الشبح، تقنية الترميز، وتقنيات في طور التجربة.
ولقد طال الغش كل المواد بلا استثناء، ولعله من عجائب هذا الزمان أن يلحق الغش حتى المواد العلمية من رياضيات وغيرها والطامة الكبرى أن يغش التلميذ في المادة التي تذكره من حين لآخر بالحديث الشريف “من غشنا فليس منا” ليظهر لك جليا الانفصال التام بين ما يدرس وبين ما يتم استثماره في الحياة.
إن ما وصلت إليه المدرسة المغربية ما هو إلا انعكاس ونتاج مباشر للقيم السائدة في المجتمع. فالقضية السياسية انعكست سلبا على المدرسة، فالانتهازية والرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ حلت محل قيم التضامن والمصلحة العليا والتنافس الشريف. وهكذا فالتلميذ يصطدم بين خطاب مثالي في المدرسة وبين آخر نفعي في واقع المجتمع. ولتفاوت القوى، فقدت المدرسة مصداقيتها في أول وأهم محور لها ألا وهو التلميذ.
همسة في أذن السيد الوزير
وَددتُ لو أن وزيرنا المحترم ومرؤوسيه في الأقسام التربوية والتعليمية، أصحاب المذكرات والقرارات والتجارب الرائدة أن يقرؤوا كيف كان الجو التعليمي عند الأسلاف طلبة ومشايخ:
قال الخطيب البغدادي وهو يصف آداب طالب العلم: وإذا مر بصحابي ترضى عنه، وحسنٌ أن يثني على شيخه كما كان عطاء يقول: حدثني الحبر البحر ابن عباس، وكان وكيع يقول: حدثني سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، وينبغي ألا يذكر أحدا بلقب يكرهه، فأما لقب يتميز به فلا بأس.
وقد ذكر الحافظ ابن جماعة رحمه الله في كتابه الماتع: “تَذْكِرَةُ السَّامِعِ والمُتَكَلِّم، في أَدَب العَالِم والمُتَعَلِّم”:
…من الآداب التي ينبغي أن يتحلّى بها طالب العلم أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق؛ ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار، والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العَتْبَ عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
ولقد أخذ ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالة قدره، وعظم مرتبته، بركاب زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عن الجميع وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا. وقال الشاعر:
إذا أفـادك إنســان بفــائـدة *** مـن العلوم فلازم شكره أبدَا
وقُـلْ فلان جـزاه اللـه صالحـةً***أفادنيها وألقِ الكِبرَ والحسدَا
إن الذين يَحلُمُون بتغيير رتبة المغرب الدنيا في التعليم مقارنة مع دول أخرى، واهمون مخطئون. خاصة مع سياستهم الواضحة في الانتقاص من مناهج العلماء، وهو محج ضيق قد سبقهم إليه كبيرهم طه حسين في كتابه الأيام حينما ادعى أن العلماء يحفظون ولا يفهمون؛ ووصف مناهجهم بأنها خالية من استعمال العقل.
لقد كانت مناهج العلماء في التدريس والكتابة والتأليف على مرّ الزمان محط اهتمام المنصفين من الدارسين حتى من الأعداء، ولقد كان العقل حاضرا في كل محطات العلماء لعلمهم أن مصادر التشريع تدعو إلى إعماله و الاستنارة به، لا جعله إلها يعبد من دون الله، ولقد تقرر عند أهل السنة والجماعة أن إلغاء العقل في كثير من الغيبيات هو عين العقل؛ لقصور هذا الأخير عن إدراك ما اختص به الحق سبحانه نفسه العلية.
إن عدم أخد العلم من مظانه وأصوله أنتج لنا فسيفساء من التعليم: هذا فرانكفوني عقلاني؛ وآخر خرافي فلكلوري؛ وثالث جاهل رغم كثرة الشواهد والنياشين.
وإذا كان التعليم العتيق أو حتى التعليم التقليدي -كما يحب البعض أن يصفه- والذي يعتمد على المزاوجة بين الحفظ والفهم، والتلقين بالاحتواء والصرامة في التدريس، قد استطاع أن يخرج لنا ثروة بشرية منقطعة النظير مُكَونة من العلماء والمشايخ والأساتذة والدكاترة، فإن تعليم البرنامج الاستعجالي قد خرج لنا هو أيضا جيلا منقطع النظير مهووس فقط بالسروال الأمريكي والقميص الإسباني والنظارات الإنجليزية والعطر الفرنسي…