الباطل بين زيف الإجمال وحيف الإعمال عبد المغيث موحد

لا يزال الإجمال لباس الباطل الخادع، فلا يكاد المرء يسمع غير كلام فضفاض مزمل بدعوى الغيرة على الإسلام والتفاني في خدمة قضية الأقضية، إصلاح الدين وترميم بناءه، وإلباسه حلة المعاصرة، وجُبَّة الحداثة، حتى يستعيد بزعمهم مكانته في النفوس المناوئة له، المخاصمة لأهله على سبق ظلم منه، وإجحاف من الذين أحاطوه بقشرة سميكة حالت بين نصوصه وأهل العقل والتنوير، وجعلته حكرا على القراءة الحرفية التي نأت به عن الأبعاد المجازية، التي تعد بزعمهم القبر الجزائي للتعاطي الأثري اللامعقول لنصوص الوحي، وهي المهد الاستهلالي لولادة المعاني الأسطورية واستنباط الرمزية الكامنة وراء أكمة النص، والتي متى تحققت جاء معها التحيين المنشود ليحصل التجانس بين الآية من الوحي والصورة من الواقع أنّى كان!

وهنا تكمن خطورة الإجمال من حيث التنظير، فالطيور على أشكالها تقع، لتتماهى بعد السقوط مع هذا الطرح المقاصدي الذي تكفل بتلميع واجهة الإسلام، وتبيض ما اسودّ من علائق بين الفكر الجامد وتاريخه الذي تكيفت له الجغرافية بفعل السيف وعنوة الإكراه العقائدي كما يزعم الأفاكون، بيد أن خطورة هذه الشقشقة الفكرية سرعان ما يصيبها التهافت الحتمي، وهي في طريقها الانتقالي من الفكرة إلى التاريخ، ومن النظرية إلى محيط التجربة، ومن زبد المحاضر الورقية إلى غثائية المنابر الواقعية.
وهكذا، وباسم الإصلاح أطلت علينا جريدة الأحداث بسلسلة نشاز فكري ترمي من خلاله إلى تحقيق مشروع القراءة العقلية للوحي والانتقال عبرها من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة العقلانية الدينية المناسبة للعصر الحالي، كما نصّ على ذلك بطل هذه السلسلة المفكر العفيف الأخضر، وكم هو جميل عنوان هذا الانتقال البديع من اللامعقول صوب المعقول، والأجمل منه تتبع سوءة تفصيله حتى يتسنى وضع السباق واللحاق في مضمارهما، مادام سير الدجى في خلوته لا ينضبط بنص ولا يأبه بفهم ظاهر دلّ عليه الأثر.
والتفصيل يبدأ مع مُسَـلَّمَة، جعلها الرويبضة مرتكزا انطلق من خلاله نحو نرجسية التعالي على الغائية الحقيقية من الإرسال والتنزيل، فقد نقل لنا ما رآه بعض الباحثين دون ذكر واحد منهم والإسناد من الدين، أن 94% من آيات القرآن هي من باب المتشابه، ليخلص بهذا الإحصاء إلى ضرورة الحاجة إلى علوم التأويل الحداثية لتفكيك شفرة هذا المتشابه، ومن تم فهمه فهما ربما تجاوز المراد الربّاني إلى ما يخدم الإنسان في محيطه الحالي والحداثي، ولا ضير إن تعارض هذا مع المراد المقدس الذي ما كان لمؤمن ولا مؤمنة هامش الخيرة مع قضائه المنطوق وقدره المفهوم.
لكن للقوم مسوغات لخيرتهم المتجرئة، فحيثما وجدت المصلحة فتم الشرع والدين للواقع، مع أن الصواب أن نقول حيثما وجد الشرع فتم المصلحة، وأن الدين للواقع الموزون بميزان الشرع لا بميزان الهوى، ويكفينا لتربيض أصحاب هذه النسبة وتسفيه الهاضمين لرقمها المدخون، علمنا أن في هذا قدح لمنزلة البلاغ المبين التي حازتها نصوص الوحي بكامل الامتياز، والتي متى أفقدناها للنص خبرا أو طلبا فقدَ المكلّف صفة الفهم، وصار معذورا غير مخاطب أو ملتزم بشيء من الشرعيات، أضف أن الله قد منَّ علينا برفع الإصر وما ينوء به الوسع والطاقة.
كما يرى العفيف الأخضر “أن القراءة العقلية للنصوص هي السبيل القادر على الانتقال بالإنسان عبر المجرد من منزلة الطاعة والاستسلام للنص، إلى مقام فهمه، ثم تكييفه بحسب المطلوب عقلا لا نقلا”.
ولنقف عند هذه النقطة، لنستفسر عن مشروع هذه القراءة العقلية؟ والإجابة هي: فتح آفاق الحوار بين الأديان، ونبذ عقيدة الولاء والبراء، وتعطيل الحدود، والانسلاخ من فكر الإقصاء الذي مثّل له بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}، حيث جعل هذه الآية في مواجهة إحصاء آخر يعارض هذه الجرأة الفقهية كما سمّاها، التي ترقى بزعمه المريض إلى مرتبة الفضيحة، حيث قرّر أن 75 آية تعترف بالحرية الدينية وحرية الضمير، وتدعو إلى معانقة الآخر في مودة ورحمة وسكينة، وهو زواج طوباوي، يرى سعادته أن الإسلام الصوفي -وبقدرته على نسخ النسخ- قد أفلح في تحقيق حصص من مهر هذا الزواج، فضرب لنا مثل كلمة مستوحاة من منظومة مارقة للمفلس ابن العربي الذي صار قلبه قابلا لكل ملة:
فمرعى لغزلان ودير لرهبان ومعبد أوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن ويا ليثه وقف عـند ساحل
هذه اللجة الظلماء، لكن آفة الغمس التي يعاني منها كيانه جعلته يفخر بابن العربي ويسمه بالأنموذج النادر الذي حقق من زمانه صفة المعاصرة لنا على اعتبار أن له السبق في الاعتراف بالديانات الوثنية وتسويتها بالتوحيدية، فانظر أخي إلى التفصيل الذي قالوا في مطلع إجماله: القراءة العقلانية لنصوص الوحي، لتحيط علما بالقيمة الإفلاسية لهذا المشروع القذر الذي تلوكه الألسن الحداثية، وتهفو به ومن خلاله إلى عملية إصلاح الإسلام، وكأن الإسلام بات عجلة مطاطية نالت منها حصى الجغرافيا ودسر التاريخ.
هذا وإننا لنعلم علم اليقين وعين اليقين، أن هذه الحيدة المارقة مآلها عبر الاسترسال الزمني إلى موت الفجاءة ولحد الجفاءة، وهذه سنة الله متى التقى الحق بالباطل؟ ومتى هتك الحق على الباطل دير خلوته وسراب صولته؟ مصداقا لقوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، فالعقل مخلوق ولن يرقى أن يكون خالقا، وهو صنعة ولن يكون صانعا، وهو تابع ولن يكون متبوعا، وهو قاصد في سيره فلن يبلغ الجبال طولا، وهو مناط التكليف الذي بغير النقل لن يستقيم حاله، وهو الضعيف الذي حمل الله عنه الإصر وأغاثه بالعفو والعافية، وهل للعقل بعد هذا صولة على النقل الذي هو محض كلام الخالق والصانع والمغيث والعفو الغفور؟
إن المطلوب من العقل أن يعقل ما أرسل به المرسلون ونزلت به الكتب، حتى تحصل له الاستجابة التي متى حصلت نال العقل الهدى بعد الضلالة، وتنعم بالنور بعد الظلمة، واغتنى بالربح بعد الخسارة، وليس هناك نوال يحقق للعقل هذه المكاسب غير هداية التوفيق التي يمن الله بها على من يشاء من عباده، الذين جاء خبرهم أنهم إذا سمعوا داعي الله قالوا سمعنا وأطعنا.
وبين السمع والطاعة لازم اسمه الفهم، ذلك الذي نبزتهم بعدميته والفقر إليه، والعوز إلى آليات تحقيقه، وإذا كان القرآن كما نقلت عن خطيب الصحابة علي رضي الله عنه أنه حمّّال أوجه، فإن هذه الأوجه لن تكون مادة خام لنظم أو نثر أو طلاسم كهانة تتهافت على تطويع خامتها لواقع مريض ونفوس مريضة، إنما هي نصوص وحي الغاية منها إقامة حق الله على العبيد، وهو مقصد له أكثر من لازم، مصداقا لقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}، فاللهم بلغنا هذه الزحزحة المنشودة، وامنن علينا بهذا الإدخال المبارك، واصرف قلوبنا التي هي عقولنا عن هذا الهشيم الذي تذروه رياح سلطانك، والذي سميته في محكم كتابك: بمتاع الغرور، وسراب بقيعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *