“أسلم تسلم” بين البهتان والبرهان محمد بلهادي (باحث في فقه المهجر)

هذا “الباحث” إن كان فعلا باحثاً عن الحقيقة، عليه أن لا يعمد إلى إخراج النص عن سياقه، وبتره عن ملابساته، لأجل التدليس والخداع، كمن يقف عند “ويل للمصلين”. كما هو معلوم عند البلاغيين وأهل اللغة، فعل الأمر يختلف في دلالته اللغوية بين درجات عديدة، فتتأرجح هذه الدلالة بحسب السياق والقرائن المصاحبة، بين الأمر الجبري القهري، والطلب التوددي الاستعطافي، وتتوسطهما مستويات عدة في الطلب.

فضائل الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تعد، ويكفي فخرا أنه صاحب الرسالة الخاتمة الخالدة، التي أخرج بها البشرية من ظلام الشرك والوثنية، إلى نور التوحيد والإسلام. لقد قيل في رسول الله صلى الله عليه وسلم ساحر، وقيل كاهن، وقيل كذاب، وقيل طماع في السلطة والملك… لكن لم تفلح كل هذه النعوت في لجم دعوته، أو الحد من انتشارها.
ويطلع علينا في هذه الأيام من بين أظهرنا، ومن بني جلدتنا، من يتجرأ على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وينعت رسالته بأنها رسالة إرهابيةو لا تشرفنا!!! في ازدراء واضح للدين الإسلامي، واستفزاز سافر لأكثر من مليار ونصف من المسلمين.
لقد أضحى الدين اليوم كذاك الحائط القصير الذي يحاول أيا كان أن يتسلقه، فهذا الذي صرح بهذه الافتراءات المستفزة والمستهترة بمشاعر المسلمين، أقل ما يمكن أن يقال عنه، أنه “يهرف بما لا يعرف”، وقوله الأخير دليل على قصور فكري وجهل مطبق بأمور الشريعة. وفي استقراء مقتضب لآراء هذا الشخص، ولخرجاته الإعلامية المتكررة، نجده يتطرق لكل المواضيع، ويجرأ على مختلف الاختصاصات، مع العلم أن تخصصه معروف، ومستواه كذلك.
وقديما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “إذا تكلم الرجل في غير فنه أتى بالعجائب” ، وهذا الكلام ينطبق تماما على ذلكم الشاعر الأمازيغي، الذي ما فتئ يأتي بالأعاجيب، ويبدي في كتاباته الغرائب، وبالأخص عندما يخوض في أمور الإسلام، ويصدر الأحكام، ويفتي في الحلال والحرام، بلا حسيب ولا رقيب، ولا وازع ولا رادع.
بدون صراخ ولا شتم، ولا تهديد ولا وعيد، تعالوا نحتكم إلى الحجة والبرهان، وإلى مقامات اللغة والبيان، وإلى تاريخ الأزمان، ليتجلى الحق من البهتان.
الباحث المتجرأ تحدث عن مضمون رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ملوك ورؤساء الدول في ذلك العصر، والتي كانت تحمل عنوان “أسلم تسلم”، موضحا أن تلك الرسائل بمعايير العصر الحاضر “إرهابية”، وتتضمن تهديدا في سياق تاريخي خاص. معتبرا في المقابل أن المعتقد “اختيار شخصي وحر للأفراد”.
هذه الأفكار ليست جديدة؛ فهي شبهات قالها من قبْلُ المستشرقون والعلمانيون، كما قالها اللادينيون والملحدون… ولا داعي لتدنيس هذه الورقة بذكر أسمائهم وهرطقاتهم…
هذا العلماني في خرجته الأخيرة، وقع في خطأ معرفي كبير، ناتج عن جهل مركب..
أولا: الإسلام لم يفرض بالسيف، ولا يفرض بالسيف… ولم يستعمل السيف إلا عندما كان هناك حاجز مادي سلطوي يمنع نشر الإسلام ويحول دون تبليغ رسالته إلى عموم الناس، هنا فقط أصبح الجهاد بالسيف من آليات نشر الدين لأجل تبليغه للعالمين… كما أن الملايين في جنوب شرق آسيا اعتنقوا الإسلام، ولم يغز المسلمون بلادهم، ولم يتحركوا بجيش نحوهم. وجيوش المسلمين التي دخلت بعض البلاد لم تجبر أحداً على الإسلام، بدليل أن كثيراً من أهلها ظلوا على دينهم، لأن العقيدة لا تستقر في النفوس بالقوة، ولو أن هؤلاء اعتنقوا الإسلام تحت وطأة السيوف لتركوه فيما بعد.
فكيف يقال أن الإسلام انتشر بالسيف؟!
ثانيا: الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم لم يبتغ من وراء رسائله إلى الملوك، حكما أو غرضا دنيويا، فلو كان صلى الله عليه وسلم يسعى أو يحارب من أجل ملك أو حكم، لكان له الجاه والسلطان. فقد عرضت عليه العرب الملك مقابل التخلي عن رسالة الإسلام، فأبى، وقبل ذلك خيره الله عز وجل بين أن يكون ملكا، أو يكون عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا .
ثالثاً: “أسلم تسلم”، معناها أسلم تسلم من جهنم وتعتق من عذابها. ورسائل الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة إلى الإسلام، وليست تهديدا لأحد -عكس ما استنتجه من يمتاز بضحالة الفهم-، والدليل أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل الذين رفضوا الإسلام، وكفوا أيديهم عن أهله، وهذا واضح من خلال أحداث سيرته العطرة.
وهذا “الباحث” إن كان فعلا باحثاً عن الحقيقة، عليه أن لا يعمد إلى إخراج النص عن سياقه، وبتره عن ملابساته، لأجل التدليس والخداع، كمن يقف عند “ويل للمصلين”. كما هو معلوم عند البلاغيين وأهل اللغة، فعل الأمر يختلف في دلالته اللغوية بين درجات عديدة، فتتأرجح هذه الدلالة بحسب السياق والقرائن المصاحبة، بين الأمر الجبري القهري، والطلب التوددي الاستعطافي، وتتوسطهما مستويات عدة في الطلب.
وفعل الأمر “أسلم” الذي ابتدأ به الخطاب الموجه لملوك ذاك الزمان، ومن خلال القرائن التي احتفت به، يتبين أنه التماس ندي، ودعاء علوي، وليس بتهديد إرهابي. فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يهدد إطلاقا، وإنما كان يدعو إلى الإسلام بكل احترام، وبحمولة اجتماعية تقديرية، تراعي موازين قوة طرفي المراسلة. فبلاغته صلى الله عليه وسلم من أبرز مظاهر عظمته، وأجلى دلائل نبوته، فهو عليه الصلاة والسلام صاحب اللسان المبين، والمنطق الرصين، والحكمة البالغة، والكلمة الصادقة، والمعجزة الخالدة.
“أسلم تسلم”، جناس يدل على معنى السلامة الكلي، فالإسلام سبيل السلامة المعنوية والحسية في الدنيا والآخرة، وفيه إيجاز بحذف الشرط الذي جزم جواب الطلب، فتقدير الكلام: إن تُسلم تَسلم، وفي حذفه تعجيل بالمسرة واستمالة للمخاطب، فانتقل إلى النتيجة مباشرة دون تعريج على المقدمة، لدلالة السياق عليها، والتعجيل بالمسرة في مقام البشرى، أو الدعوة إلى الحق بذكر الوعد المترتب على ذلك، مقصد من مقاصد البلغاء.
وقد عجل المسرة الدنيوية ابتداءً، لكونه يخاطب ملكا يضن بملكه، فبشره بالسلامة العاجلة ليهدأ خاطره، ومن ثم ثنى بذكر الثواب الآجل: أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فلو قلنا بأن جملة: “يؤتك الله أجرك مرتين…” بدل من جملة: “تسلم” الأولى، فهي بيان ثان، فتكون الأولى بمنزلة الممهدة للثانية، بذكر الوعد بالسلامة إجمالا ثم تفصيله.
فالأجر أجران: أجر إيمانه بعيسى عليه السلام، وأجر إيمانه بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو أجر إيمانه ابتداءً، وأجر إيمان قومه تبعا له، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
دلالة الحديث جلية، ومن يبحث في تأويل مثل هذه النصوص الشرعية القطعية الثبوت، والصريحة الدلالة، كمن يبحث عن ثاني الأهلة لشهر رمضان بعدما تبين له الأول…
زيادة على هذا فعبارة “أسلم تسلم” خاطب بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مرات عدة أفراداً بعينهم ممن كانوا قريبين منه، من ذلك نجد في كتب الحديث الوقائع التالية:
– يوم الفتح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي قحافة (والد أبي بكر الصديق): «أسلم تسلم» .
– جاء عامر بن الطفيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عامر، أسلم تسلم» .
– قال عدي بن حاتم: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي ثلاثا: “يا عدي بن حاتم، أسلم تسلم” .
– قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان: “يا أبا سفيان، أسلم تسلم” .
– قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا رسول الله يا جرير، أسلم تسلم يا جرير، أسلم تسلم” قالها ثلاثا .
فهل هؤلاء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهددهم ويتوعدهم من خلال عبارة “أسلم تسلم” بالإذاية أو القتل إن لم يسلموا؟!
واقع القرآن وتاريخ الأمة، أوضحا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهدد أو يحارب أي ملك في زمانه، بل إن كسرى وقيصر بقيا على حكمهما، ولم يكرها على الإسلام، لأن الله تعالى نهى بصريح الآيات عن قتال غير المسلم، إلا أن يعتدي على المسلم، آنذاك يقاتله المسلم ولا يتجاوز فيه رد العدوان.
هذه الكلمة “أسلِم تَسلَم” قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهرقل ملك الروم، ولكسرى ملك الفرس، وللعالمين من الإنس والجن، فمن أسلَم سلِم من النار.
فلو أسلم هرقل لكان خيرًا له، ولسعد في الدنيا والآخرة، ولكنه آثر الملك والحياة الدنيا على الآخرة، واتبع هواه فكانت عاقبته الخسران، وهو الآن في قبره يتمنى لو أطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: “كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلا من أبى. قالوا: يا رسولَ اللهِ، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنةَ، ومن عصاني فقد أبى” .
وللإشارة كان المعني بالأمر، قد دعا خلال ندوة حقوقية نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، على هامش انعقاد مؤتمرها الوطني العاشر شهر أبريل الماضي، إلى ضرورة إعادة النظر في الإيديولوجية المؤطرة للمنظومة التربوية، موضحا أن التلاميذ يدرسون حاليا في المقررات الدراسية أمورا تتعارض مع قيم حقوق الإنسان، ضاربا المثال بكون مقرر الجذع المشترك يحتوي على “رسالة تهديدية وإرهابية”، وهي رسالة “أسلم تسلم”.
ويأتي بعد هذا ليراوغ ويناور بأنه قصد كذا ولم يقصد كذا… الكلام واضح لا يستدعي كبير جهد لفهمه، فهو يستهدف ضرب ثوابت الأمة، والمتمثلة في السنة النبوية المطهرة، ومن خلالها القرآن الكريم، باعتبار السنة هي وحي من الدرجة الثانية، بعد كتاب الله عز وجل.
فعقيدتنا تؤكد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وقد زكى الله تعالى نطقه، فقال عز وجل: “وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” . والتشكيك في كلامه صلى الله عليه وسلم تشكيكٌ في كلام الله تعالى.
ومن الثوابت المستهدفة كذلك طمس هوية هذه الأمة، بالتخلي عن تاريخها وعدم تدريسه لأبنائها. فأي سم زعاف يريد هذا المخلوق -الذي لم يعلم سر خلقه- نفثه في فكر أجيالنا.
نسأل الله تعالى أن يقينا شره، وأن يهديه لجادة الصواب، ويرد به ردّاً جميلا.
فـ”أسلم تسلم” نقولها اليوم لمن يطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام، وكذا لمن يؤيده في ذلك، فالله عز وجل يقول في من يعاند ويعادي رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخالف طريق صحابته والمؤمنين: “وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *