لمن يوجه اللوم بخصوص اختيار الكتب المدرسية التي توضع رهن إشارة المعلمين والمتعلمين بالمدارس الابتدائية على وجه التحديد؟ وبعبارة أخرى: من نلوم إن نحن رغبنا في إبداء ملاحظات أو مآخذ تستهدف إبراز كون مستوى بعضها مرتفع عن مستوى التلاميذ عندنا. هؤلاء الذين عليهم اعتمادها للتنوع في تحصيل مختلف المعارف، والتي عليهم استيعابها على مدار سنة كاملة؟ هل نلوم مباشرة رئيس الوزراء؟ أم نلوم وزير التعليم؟ أم نلوم مدير ديوانه؟ أم نلوم الكاتب العام؟ أم نمضي في التسلسل الوظيفي بنفس الوزارة نازلين إلى حيث نقف عند من لهم إشراف مباشر على وضع المقررات، وعلى تأليف هذه الكتب، أو على اختيارها وإن كانت من تأليف الأجانب؟ والمشرفون هؤلاء إما أنهم واعون بمستوى التعليم لدينا، وإما أنهم غير واعين به؟
حديثنا يدور حول كتاب بالفرنسية عنوانه:(Parcours). وهو للتذكير من وضع فريق فرنسي يتألف من ثلاثة أفراد، هم بدون ما ريب على بينة من مستوى تلامذة التعليم الابتدائي بالديار الفرنسية. دون أن نستغرب دعم القدرات التأليفية للأول وللثاني بمجهود سيدة، يبدو أن كفاءتها لا تقل عن كفاءتهما بدليل محتوى الكتاب من بدايته إلى نهايته. معززا بوسائل الإيضاح التي تفرضها البيداغوجية المعاصرة. مع مراعاة البراغماتية (Pragmatisme)التي تقرر كيف أن العقل لا يبلغ غايته كمضمون وكوظيفة، إلا إذا قاد صاحبه إلى الممارسة أو إلى العمل الناجح. وهو نفسه المعنى الذي تجسده المقولة التي تتردد منذ أزمان على ألسنة علماء المسلمين: “لا خير في علم لا يصحبه عمل”.
فالكتاب المدرسي القادم إلينا أو علينا من فرنسا، أو المستقدم منها على الأصح، لم يكن للمربين المغاربة أي دخل في وضعه! فكيف تم لوزارة التعليم -وحكومة الملتحين قائمة- وضع التأشيرة عليه والترخيص بتدريسه في فصلين ابتدائيين: المتوسط الأول (=القسم الخامس)، والمتوسط الثاني (=القسم السادس) الذي يعد بمثابة قسم أول شهادة يحصل عليها التلاميذ، مع إغفال التساؤل تربويا عما إذا كان من وراء إلغاء منحها لهم تحقيق لأهداف منها يستفيدون؟ أو لأهداف تستفيد منها الوزارة، إن هي اقتنعت بضرورة التقشف في استهلاك كمية هائلة من الورق الذي تطبع عليه هذه الشهادات؟
وها هنا تساؤلات أو استفهامات بالجملة:
أولا: بماذا نفسر إصرار الوزارة تحديدا على تمكين المدارس الحرة الخاصة وحدها من تدريس الكتاب الفرنسي المذكور قبله، بدلا من كتاب يتولى المربون عندنا تأليفه؟ وذلك في قسمين يبدو أن مستوى التلاميذ الدراسي في أولهما يختلف عن مستواهم في ثانيهما؟
ثانيا: لماذا لم يتم الاقتصار على كتاب يشرف المغاربة أنفسهم على تهيئته؟ أو لم يكن الحديث منذ عقود يدور حول التعميم والمغربة؟ وهل المغربة بالذات تعني الاستمرار في اعتماد ولو بعض الكتب المدرسية المستورة لفائدة المعلمين والمتعلمين بالأولى، وكأن استقلالنا مصاب بنوع من الشلل، حيث إننا كشبه عاجزين عن السير في الطريق بعيدا عن اتكائنا على عصي آتية من الخارج؟
ثالثا: هل على تلامذتنا التشبع بعقلية فرنسية مصدرها التصور الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والتربوي والتعليمي؟
رابعا: هل بمقدور تلامذتنا ربط تواصل صميمي بين مضامين الكتاب المستورد، إلى حد عنده لا يتبرمون من صعوبة فهم مفرداته ومعانيه، وأساليب صياغة نصوصه المصبوغة بصبغة مخالفة تماما للصبغة التي يتم بها صبغ المنتوج الفكري المغربي في بيئة وفي وسط غير بيئة وغير الوسط الفرنسي المعروفة لنا هويته؟
إن ما تجهله أو تتجاهله الوزارة، رغما عن احتواء مكاتبها المركزية والفرعية لطاقات بشرية لصيقة الصلة بالعملية التعليمية، هو ما يطل علينا واضحا وضوح الشمس؛ ونحن نطرح استفسارات أخرى تروم نفس ما كانت ترومه التساؤلات المتقدمة على التو:
بأية لغة يدرس التلاميذ الفرنسيون التاريخ والجغرافية والمواد العلمية الأولية، والتربية الوطنية والرياضيات، والتربية الدينية والخلقية، والقواعد اللغوية من نحو وصرف وتحليل وإملاء وتعبير؟
لدينا إجابة واحدة. إنهم يدرسون كل ما ذكر بلغتهم الأم. ولغتهم الأم هذه هي التي يتخاطبون بها في البيوت وفي الشوارع، فيكون من السهل عليهم تلقي كافة أوجه المعرفة بها دون ما عناء، بحيث يكون الجديد عندهم مجرد تقويم لقواعد القراءة والكتابة. فكيف لا يكون مستواهم اللغوي تحديدا مرتفعا وهم لا يدرسون المقررات السنوية بلغة أجنبية؟
أما تلامذتنا فيتحدثون في البيوت وفي الشوارع، إما باللغة العامية (الدارجة) وإما بـ”الأمازيغية” التي توزعت مناطق مغربية النطق بها. فلهجة السوسيين غير لهجة الفكيكيين، ولهجة هؤلاء غير لهجة الريفيين ولهجة الزيانيين. وهذه اللهجات كلها لا تربطها روابط وثيقة باللغة العربية الفصحى، مما يذكرنا بالعرب الأوائل الذين كانوا يتحدثون ويتواصلون بفصيح الكلام المبين.
فإضافة إلى إلزام التلاميذ بتلقي القراءة والكتابة والتحصيل والتذكر والتفكير باللغة العربية، فإنه في الابتدائي مطلوب منهم تعلم الفرنسية لنفس الأهداف أو لنفس الغايات، تضاف إليها اللغة الإنجليزية التي يجري تدريسها مرة واحدة في الأسبوع بالمدارس الحرة على حد علمنا. ثم تضاف إلى الإنجليزية لغة أو لهجة “تمازيغت” التي يجري تلقينها بصعوبة إلى حد كون تلقيها يتعثر لأسباب، من واجب المربين المتحمسين لتدريسها أن يبرروا غياب عدم تعميم دراستها أولا، أو تراجع الذهاب بعيدا في تدريسها ثانيا. ثم إن من واجبهم أن يفكروا في كون أبناء الأمازيغيين سوف يتفوقون لا شك في دراستها على غيرهم من الناشئة ببلادنا. مما يسبب إحراجا تربويا لا بد من التفكير الجدي في رفعه؟
ولا ننسى الإشارة إلى أن الحكومة التي جاءت خلفها حكومة بنكيران، كانت قد فكرت جيدا في الإشكال الذي يطرحه الكتاب المدرسي المستورد. فكان أن جدت في إيجاد حل مناسب لها، لكنه بحلول أجل رحيلها وحل حكومة أخرى بدلها نقول: إن هذه التي لا تزال قائمة، أهملت التفكير في الموضوع، أو إنه لم يكن عندها من بين الأولويات التي تتطلب السرعة في التنفيذ، أي في إنهاء مقتضيات المغربة التي لا يمكن حصرها في تكوين الأطر. خاصة وأن توفر هذه، لا يعني شيئا، ما لم تملإ الفراغ في كافة المجالات. إذ لا فائدة من التبجح بكون أطرنا التعليمية ذات مستويات عالية. فإذا بنا نستجدي الكتب المدرسية! مما يفضح افتقارنا إلى مربين في المستوى المطلوب! أو افتقارنا إلى الإحساس بالاستقلال الذي نرفض -ونحن نفتخر به- الاعتراف بالدونية المقيتة أو بما يشبهها في كل الأحوال!
وما سقناه من كلام عن الكتاب المدرسي المشار إليه، يحيلنا على أن تدني التمكن من اللغة الفرنسية بمثابة عرقلة تحول دون التلاميذ والوصول بسلام إلى اجتياز مرحلة الباكالوريا بامتياز، حيث تتاح لهم فرص اختيار الشعب العلمية أو الأدبية التي يرغبون في اختيارها دون عناء! لكن الذي وقع ويقع، هو فرض اتجاه بعينه على الطلبة المحرومين من إيجاد ملاجئ مضمونة للإفلات مما أكرهوا على الالتحاق به من مدارس ومن كليات على الخصوص. وهنا تبرز الأبواب مفتوحة أمام الميسورين الذين يلحقون أبناءهم بكليات متخصصة خارج الوطن.
إن الكتاب الذي جعلناه محورا لمقالتنا هذه، موضوع أمامي فوق مكتبي. إنه يخص حفيذتي التي هي الآن في القسم الخامس الابتدائي، لكنه -كما اكتشفت- كتاب وضع لتلامذة القسم السادس الابتدائي بالمدارس الفرنسية! مما جعلها ورفاقها ورفيقاتها في الدراسة، تجد صعوبة كبيرة في قراءة نصوصه، وكيف بفهمها واستيعابها، والتعامل مع ما تتضمنه من تمارين ومن أسئلة تدخل في إطار مسمى الواجبات أو الفروض المنزلية، التي على التلميذ إنجازها في البيت اعتمادا منه على نفسه. هذا إن لم يجد إلى جانبه من يمد إليه يد العون.
أما المدارس العمومية التي لنا بها صلة، فأوضاعها -كما نقف عليها- أوضاع أخرى مثيرة حقا للقلق. فقد حضر إلي ذات يوم من أخبرني بما يجري في مدرسة غير بعيدة عن منزلي، كيف أن المعلمين يكثرون من التخلف عن الحضور في الوقت المطلوب منهم الحضور فيه. وكأنهم متفقون على أن يأتي منهم البعض، ويغيب منهم الباقي. والتلاميذ في غياب من تغيب من معلميهم يقضون جل أوقاتهم في اللعب! والحال أنه لا يوجد من ينوب عنهم ولو لنصف ساعة زمنية. حتى إذا ما تم حشرهم في الأقسام، أحدثوا من الضجيج ما يصل إلى آذان العابرين والمعلمين المنشغلين إزاءهم بالتدريس!
فلم يكن مني غير القيام بزيارة خاطفة إلى السيد مدير تلك المدرسة الموجودة في ضواحي مدينة عامرة، والتي لا تبعد عن الإدارة حيث يمارس المدير عمله سوى خمس كيلومترات. والطريق إلى المدرسة معبد، مما يتيح الفرصة أمام المدير للقيام بزيارات مفاجئة لها ولغيرها في نفس الضواحي.
لكنه -على ما يبدو- لم يلتفت إلى ما يجب عليه الالتفات إليه، فكان أن نبهته بطريقة ديبلوماسية إلى وجوب متابعة ما يحدث هناك في مدارس داخلة في دائرة مسؤولياته. ويبدو أنه قام بمحاولة للتأكد من صحة ما نقلته إليه في أول الأمر، واتضح لمن أخبرني أن الوضع بالمدرسة آخذ في التحسن، على الأقل بخصوص مواظبة المعلمين على الحضور في الوقت المحدد. لكنه بعد حين من ذلك، تغلب التطبع على الطبع. هذا إن نحن اعتبرنا حضور المعلمين إلى المدرسة بانتظام لأداء واجبهم كاملا هو الطبع. وإن نحن اعتبرنا عدم حضورهم لاستمرائهم الغياب هو التطبع! وذلك في انتظار أن يغلب الطبع على التطبع في مجموع العملية التعليمية عبر التراب الوطني! والحال بيد الوزير والطاقم التعليمي المتسلسل صعودا من الأدنى إلى الأعلى، والمتسلسل نزولا من الأعلى إلى الأدنى، أي بعبارة أخرى: من قمة الهرم إلى سفحه!!!