يعتبر التعليم العالي المرحلة الأهم في الحياة الدراسية، لذلك يكون هو الملجأ والمقصد لكثير من الحاصلين على شهادة البكالوريا بجميع أسلاكها، ويقصد بالتعليم العالي “مستوى من مستويات التعليم يرتبط ولوجه، بصفة عامة، بالتوفر على شهادة نهاية الدروس الثانوية أو امتلاك مستوى معرفي مواز لها، وهو بطبيعته تعلم متخصص يقود الطلاب إلى مستوى من التأهيل في مجال محدد كما أنه يشمل سلكين، ويتكون التعليم العالي من التعليم الجامعي والمؤسسات العليا”.
ومن هذا المنطلق فالتعليم الجامعي هو المقصود بهذه الرؤية، الذي يسعى إلى أن يصل بالطالب إلى مستوى مرتفع من التأهيل، وكذلك يهدف كما جاء في الميثاق الوطني للتربية والتكوين “إعداد الشباب للإدماج في الحياة العملية” ولكن الإشكال المطروح ما هي درجة هذا المستوى في ظل العديد من التحديات؟ وما هي حدود هذا الإدماج؟
إن الجامعة وبالأخص كلية الآداب والعلوم الإنسانية، والحقوق والاقتصاد، والعلوم، أضحت هي المؤسسات الوحيدة ذات الاستقطاب غير المحدود، وهذا ما يبرره العدد الهائل من الطلبة المسجلين في هذه الكليات، والتي تتراوح عددها في جامعة سيدي محمد بن عبد الله بستون ألف، وبجامعة بن زهر بأكادير بحوالي مائة ألف طالبا، ويعتبر هذا أول تحد في طريق تحقيق الجودة في التعليم العالي، وهذا التحدي ينتج عنه تحد آخر ويتجلى في ارتفاع عدد الطلبة في الفصل الواحد، وذلك نظرا لقلة عدد الحجرات والأساتذة الجامعين، حتى أنه في بعض المسالك يتلقى الطلبة الدروس قياما واقفين في ازدحام.
فمن الجانب البيداغوجي لا تتحقق شروط التعليم الضرورية والتي يعبر عنها بالمناخ الملائم داخل الفصل الدراسي، إلى جانب هذا نجد التكوين الجامعي يقتصر على الحصص النظرية فقط ولا وجود للحصص التطبيقية إذا ما استثنينا كلية العلوم والاقتصاد، مما يجعله يركز على الشحن المعرفي وقيامه بوظيفة الإعلام دون وظيفة التكوين، فمخرجات التعليم الجامعي تبقى ذو تكوين معرفي ولا يهدف إلى إرساء كفايات عليا لدى الطالب وتبقى المعارف معزولة عن التطبيق لأن الطالب درسها نظريا فلا يملك مهارة التطبيق وتكيف معارفه في وضعيات مختلفة، ومن النقط السوداء في تعليمنا الجامعي عدم مراعاة المحتوى بمتطلبات الحياة الاجتماعية وسوق الشغل فالمحتوى في الشعب الأدبية إذا ما ربطناها بالواقع وأردنا أن نجد منفذها، ورصد ما يمكن توجيهها نكاد لا نجد أين نصرفها، ما يطرح سؤال ما هي آفاق هذه الشعب وكيف يمكن ربطها بسوق الشغل؟
فمثلا شعبة الفرنسية والدراسات الإسلامية والتاريخ والفلسفة،… إذا ربطناها بسوق الشغل؛ فأي مجال يمكن ربطها به؟ فلابد من إيجاد منافذ أخرى لصرف هؤلاء الكفاءات ؟
وهذا من أكبر المشاكل والتحديات العويصة، وذلك راجع للكم الهائل لخريجي الجامعة المغربية في كل سنة بعد حصولهم على شهادة الإجازة أو الماستر بالإضافة إلى الإجازة المهنية، فمن الواضح جدا أن نخوض إلى هذا التحدي لأنه ليس هناك توجيه سديد واستراتيجية محكمة تضع الطالب أمام اختيارات عدة وليس حصره في منفذ وحيد “مهنة التدريس” وتبقى الوظيفة الوحيدة لهؤلاء الخريجين، التعليم والولوج للتدريس بشقيه العام وهو الذي يضمن بعض الحقوق والحماية القانونية لهم.
عكس التعليم الخاص الذي لا ينضبط لدفاتر التحملات مما يؤدي إلى استغلال الطلبة وتوظيفهم بأجر هزيل وتعرضهم للطرد في أي لحظة، فالتعليم الخاص لا يضمن الاستقرار المادي ولا يوفر الحماية القانونية لهم، مع عدم حصولهم على أبسط الحقوق كالتأمين الإجباري عن المرض والتعويض العائلي والتقاعد، وبما أن هذا هو واقع التعليم الخصوصي يبقى المقصد والمنفذ للتكوين الوحيد النجاح النهائي في مباراة الولوج لمهن التدريس.
وما يبرر هذا هو الاحتجاجات المتواصلة للأساتذة المتدربين مع ما يتعرضون له من تدخلات همجية، وتدفق الشعب المغربي معهم بنزوله بشدة للعاصمة دفاعا عن التعليم العمومي وعن كرامة الأستاذ، بسبب بعض الإصلاحات المتواصلة التي أجراها حزب العدالة والتنمية؛ حيث بدأت إصلاحاته سنة 2012 بعزل المدارس العليا للأساتذة عن وظيفتها وألحقها بالتعليم الجامعي، وأسندت المهمة للمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وأحدثت مشروعا لتكوين عشرة ألاف إطار تربوي الذي يختم بإجازة مهنية التأهيل لمهن التدريس من المدرسة العليا للأساتذة، والذي يتلقى فيه الطلبة تكوينا لمدة سنة بشقيه النظري والتطبيقي بالمؤسسات التعليمية.
وفي سنة 2015 أصدرت الحكومة قانون مرسومين اللذان وصفهما الأساتذة المتدربين (بالمرسومين المشؤومين) القاضيان بفصل التوظيف عن التكوين وتقزيم منحة التكوين، إذ بعد ولوج الأساتذة للمراكز يتلقون تكوينا يتوج بشهادة التأهيل التربوي ثم اجتياز مباراة التوظيف، أليس هذا ضرب في مسؤولية ومهمة وجودة تكوين المدارس العليا للأساتذة التي قامت بتكوين عشرة آلاف إطار تربوي، وسلب لهويتها؟ أليس هذا إقرار بفشل ذلك المشروع؟ أو ليس هذا سقوط في نفس التكوين مرتين؟ فإذا كان تعليلهم الرفع من مستوى التكوين وتحقيق الجودة فإن تعليلهم واه ومردود والذي يجب إصلاحه هو التعليم الجامعي الذي هو الأصل والأساس؛ إذ الإصلاح يجب أن يكون من الأصل، ثم ما علاقة التكوين بالمرسومين؟
فالمنفذ الوحيد إذن هو المراكز الجهوية، وها قد ضيقوا الخناق عليها، والتي أصبحت تنحوا إلى تكوين أساتذة معطلين.
إن العلاقة بين الجامعة المغربية وسوق الشغل تحتاج إلى رابط واضح، والذي يتجلى في ربط التعليم والتأهيل بالواقع وأن يراعى الجانب الاقتصادي والاجتماعي وكيفية تقديم تكوين ينسجم وسوق الشغل، وتوفير اختيارات واضحة لهؤلاء الخرجين من الجامعة، حتى هذا المشروع الأخير القاضي بتكوين 25 ألف طالب في العديد من المجالات بالجامعات، هل حددوا له وجهة واختيارات ومنافذ واضحة، أم ستبقى علاقة منفصلة لا جسور لها، وأبلغ ما يمكن أن نصور به هذا الوضع المزري؛ كعدد خلايا في جسم تتكاثر فيه وبشكل عشوائي مما ينتج عنه تكون ورم سرطاني قاتل، كذلك تكاثر عدد الطلبة بشواهد عليا معطلين يفضي إلى مرض وأزمة لا مخرج منها في المجتمع.
فما هي الحلول والتدابير التي يمكن إحداثها؟ وما هي الإصلاحات الرشيدة والسديدة والحقيقية لتقليص آفة البطالة بشواهد عليا للفرع من مستوانا التعليمي بين الأمم؟