..حرص الباحث على الظهور بمظهر العلم والموضوعية والتجرد، إلا أن المتأمل في نتائج بحثه وإطلاقه للأحكام يدرك بأن مشروعه يخدم توجها معينا له موقف معروف من انتشار التدين في المجتمع، ومن الدعوات الإصلاحية التي تسعى للرجوع بالدين إلى صورته الأصلية النقية بصفة خاصة.
بعد سنوات من مخالطة الباحث عبد الحكيم أبو اللوز لبعض السلفيين، وتتبعه لأخبار وأحوال دعوة دور القرآن السلفية؛ ناقش أطروحته لنيل الدكتوراه في علم السياسة من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء في موضوع: “الحركات السلفية بالمغرب ما بين 1971 و2004″، وذلك في شهر ماي من السنة الماضية 2008.
وقد نشرت يومية الصباح في عددها (2533) خبر مناقشته في كلية الحقوق، مضمنة الخبر مجمل رؤيته عن السلفية في المغرب، والفرق بين السلفية التقليدية والسلفية الجهادية، خلص فيها إلى استنتاجات وأحكام؛ أهمها: القول بالتقارب الشديد بينهما، وأن الانتقال من الأولى إلى الثانية سهل وميسور! (1)
ثم شرع الباحث المذكور في نشر مقالات في الموضوع انتقد فيها الطريقة التي تم سلوكها للتعرف على هذه الظاهرة؛ يقصد (الحركات السلفية)!
ووصفها بأنها غيبت العلمي والموضوعي (2)، مشيرا إلى كونه استدرك ذلك النقص في دراسته التي أكد أنها احتاجت إلى كثير من الشجاعة والجرأة . (3)
ومع أن السياق الذي يحيط بدراسته يقتضي منه لزوم الحياد، وعرض الصورة كما هي دون إصدار أحكام جاهزة؛ إلا أنه لم يلزم نفسه بذلك، فحاد هو بدوره عن العلمي والموضوعي!
وفيما يلي قراءة نقدية لقناعاته ورؤيته في الموضوع، أركز فيها بالأساس على ما ذكره في مقالته: (السلفية التقليدية والسلفية الجهادية؛ أية علاقة؟)، مع التعريج على كتابات أخرى عند الحاجة.
وأود أن أؤكد في مطلع هذه القراءة؛ أنني أصدر فيها عن منطلق الشعور بواجب بيان الحقيقة التي شوش عليها الباحث بدل أن يجليها، وزادها غموضا بدل أن يحل رموزها، وهو ما أراه شيئا طبعيا بحكم التعقيدات التي تلازم المواضيع والأبحاث ذات الطابع السياسي، وبحكم الخلفية التي تؤطر الباحث أيضا.
ملاحظات عامة بين يدي الموضوع:
الملاحظة الأولى: المنبر القلمي ودلالته
لقد حرص الباحث على الظهور بمظهر العلم والموضوعية والتجرد، إلا أن المتأمل في نتائج بحثه وإطلاقه للأحكام يدرك بأن مشروعه يخدم توجها معينا له موقف معروف من انتشار التدين في المجتمع، ومن الدعوات الإصلاحية التي تسعى للرجوع بالدين إلى صورته الأصلية النقية بصفة خاصة.
ولعل أول ملاحظة تخطر ببال المتأمل في المشروع الفكري السياسي للباحث عبد الحكيم أبو اللوز تتعلق بالمنبر القلمي الذي اعتلاه لعرض آراءه، وهو عبارة عن صحف ومجلات ذات توجه علماني محض:
يومية الصباح/مجلة (tel quel)/دفاتر وجهة نظر/مجلة وجهة نظر/موقع الحوار المتمدن..
ولهذا الملحظ دلالته الظاهرة، ودوره المهم في إلقاء الضوء على الخلفية التي ينطلق منها الباحث، ونوع المشروع المجتمعي الذي اختار لنفسه خدمته، وهذا يعين على تفسير كثير من الأحكام والنتائج التي جزم بها.
الملاحظة الثانية: خلل جوهري
كما يلاحظ المتأمل أن عمل الباحث اعتراه خلل جوهري سيكون له الأثر الكبير في إضعاف نتائج بحثه ودراسته؛ وهو هزال محصلته من العلم الشرعي، الذي يستشفه الناظر من نوعية الأخطاء التي وقع فيها، والتي سيأتي بيان أهمها في هذه الدراسة النقدية.
وكما أن لنوعية الأخطاء دلالتها هنا، فكذلك كثرتها تؤكد ذلك.
وأكتفي هنا بنموذج لهذا الملحظ(4) ؛ وهو قوله في تخطئة الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني في جانب من منهجيته في الحكم على الأحاديث!:
“ومن مواقفه الدالة على ذلك عدم قبوله الحديث الصحيح أو الحديث المتفق على صحته عند المحدثين جميعا إذا كان مضمونه غير مقبول لسبب توهَّمه! فهو يأخذ ببعض الحديث الضعيف عندهم إذا كان معناه مقبولا في نظره” . (5)
ولعل الطالب المبتدئ في دراسة علم الحديث يدرك ما في هذا الكلام من الجهل المركب!
ومعلوم أن مصداقية دراسته وصحة الأحكام الصادرة عنها، رهينان بتوفره على القدر اللازم من العلم الشرعي الذي يشكل المستند الأساسي في المنهاج السلفي، والمؤطر الرئيسي لمواقف المنتسبين إليه.
ومن المستحيل تحليل المواقف السلفية تحليلا صحيحا سليما مع وجود هذا الخلل الجوهري.
الملاحظة الثالثة: خلط وتداخل
من الملاحظات الأساسية على الباحث أنه أصدر أحكاما على السلفية (التقليدية) في المغرب معتمدا -بشكل كبير- على ملاحظاته واستنتاجاته المتعلقة بأفراد من المنتسبين إليها؛ فجعل الحكم عليهم حكما على التوجه السلفي المعاصر بشكل عام.
وهذا خلل منهجي يقلل من قيمة دراسته وبحثه أيضا؛ إذ الخلط بين المنهاج وبين ممارسات بعض المنتسبين إليه يؤدي لا محالة إلى الخطأ والزلل في تقييم ذلك المنهاج وفي إنصاف المنتمين إليه في نفس الوقت.
ومعلوم أن ممارسات المنتسبين يعتريها الخطأ والتقصير والجهل، وغير ذلك من الصفات، فلا تصلح معيارا للحكم على السلفية (التقليدية)، كما فعل الباحث في مواطن من المقالة مناط هذا الرد ..(6)
وبذلك يظهر أنه ينتقد المنهاج السلفي ذاته (7) الذي اعتبره متصلبا يتسم بالنصوصية والشكلانية والحرفية، ويؤكد هذا أنه قارن هذا المنهاج في مواطن بالمنهاجين العقلاني والصوفي.
.. وحتى في حكمه على العينة! من السلفيين التي جعلها مجال بحثه، كان (أبو اللوز) متحاملا وغير متجرد ولا منصف، ويمكن حصر أبرز أخطائه في هذا الملحظ في:
1- الكذب الصريح.
2- المبالغة والتهويل.
3- إصدار حكم المطلق على النسبي.
4- تعميم الخاص.
وسيأتي التمثيل لكل واحد من هذه الأخطاء في النقد التفصيلي إن شاء الله.
الملاحظة الرابعة: الاضطراب والغموض في مفهوم السلفية
وهو لازم لما جاء في الملاحظة السابقة؛ حيث أن الخلط بين المنهاج وممارسات بعض المنتسبين إليه سيؤدي لا محالة إلى الخلل في تحديد ماهية ذلك المنهاج، هذا بالإضافة إلى كون الباحث اقتصر في استقراء التعاريف على المصادر السياسية دون العلمية .(8)
وكان ينبغي له -ليصح وصف مشروعه بالعلمي والموضوعي- أن يقر بما أثبته العلم من أن السلفية منهاج وطريقة في التدين والاستنباط، وليست أشخاصا أو جمعيات (9)، تماما كما تشكل العقلانية أو العصرانية أو الصوفية طريقة في التدين والاستنباط.
وأن السلفية لا تعدو كونها: التزام طريقة السلف الصالح في التدين، والانضباط بأصولهم في الاستنباط من النص المعصوم:
فالنص -قرآنا وسنة- مجمع على حجيته وإلزاميته بين جميع المسلمين.
وإنما يحصل الاختلاف والتضارب الشديد في تحديد معناه.
فإذا كان مشتملا على معنى مطلق فلا شك أن المعنى الصحيح هو ما ذهب إليه السلف الصالح دون غيرهم من الطوائف والتوجهات، وإذا كان يتضمن معنى نسبيا فالأصول التي أجمع عليها السلف في الاستنباط هي الأصول الكفيلة بتوجيه الفهم إلى استخراج المعنى الصحيح لذلك النص، والمستند في هذا الحكم هو الدلالة النصية للآيات والأحاديث المشتملة على تزكية السلف الصالح وارتضاء طريقتهم.
فهذا التوضيح الجلي المبسط للسلفية غاب عن كتابات (أبو اللوز)، الذي حملته طبيعة بحثه وخلفية منطلقه على لف دراسته بخيوط التعقيد المعنوي والفقفقة (10) اللفظية.
وهذا يزيد رؤيته ضعفا ومجانبة للحقيقة؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره ..(11)
يتبع..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر في بيان خطأ هذا التصور وجزافيته؛ كتابي: “السلفية في المغرب ودورها في محاربة الإرهاب”.
[2] وقد ذكرت هذا أيضا في (ص. 355) من كتاب السلفية، ومجانبة العلمي والموضوعي وصف ينطبق على الباحث نفسه، وإنما تميز عن الباقين بكونه بين جوانب من أنشطة بعض دور القرآن بشكل موسع بسبب مخالطته المريبة وتغلغله اللاأخلاقي، ومعلوم أنه لا أخلاق في السياسة.
[3] مجلة وجهة نظر / العدد 39 / ص 27
[4] وتأتي نماذج أخرى في الرد التفصيلي إن شاء الله تعالى.
[5] [الرموز المؤسسة للسلفية المعاصرة؛ الألباني نموذجا: الحوار المتمدن/العدد: 2034/10-9-2007]
[6] من ذلك قوله: (يضخم السلفيون من دور النص ..)، وفي نفس السياق قال: (إن تركيز السلفية على النصوص ..) [السلفية التقليدية والجهادية ../ دفاتر وجهة نظر 15 / ص. 116].
[7] الذي يسميه: (السلفية التقليدية).
[8] مونوغرافيا حول الحركات السلفية الجديدة بالمغرب/ وجهة نظر/ ع 39- ص 27.
[9] وهو ما شهد به المستشرقون المهتمون بهذا الموضوع أنفسهم؛ راجع كتاب: [السلفية في المغرب ..، ص. 27].
[10] الفقفقة: التقعر في الكلام.
[11] فلا بد من ضبط التعريف العلمي من أجل فهم الأبعاد السياسية للموضوع.