مع هلال شهر رمضان

ففي هذه الأيام المباركة يحل علينا ضيف عظيم وشهر كريم، يهلُّ علينا هلاله، وهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، أوجب الله تعالى صيامه، وشرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم عند رؤية هلاله وهلال كلِّ الشهور أن نذكر الله بذكر فيه بيان عظمة الرب الذي سخر لنا هذه الأهلَّة ومنازلها لنعرف أوقات زماننا فنعرف وقت حجنا وصيامنا وانقضاء شهورنا، وقد قال الله تعالى في بيان فوائد الأهلة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾.
فالقمر والهلال الذي جعله الله ميقاتا للناس من أعظم الأدلة التي دلَّت على عظمة هذا الخالق سبحانه وكمال قدرته. يقول ابن القيم رحمه الله: “وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يُبديه الله كالخيط الدَّقيق، ثم يتزايد نورُه ويتكامل شيئاً فشيئاً كلَّ ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثمَّ يأخذ في النقصان حتى يعود على حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميَّزت به الأشهر والسنون، وقام به حسابُ العالم مع ما في ذلك من الحكَم والآيات والعبر التي لا يُحصيها إلاَّ الله” اهـ.
وقوله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ أي: يَنْزِلُها، كلَّ ليلة ينْزل منها واحدة، إلى أن يصغر جدًّا فيكون كالعرجون القديم، أي: كعذقة النخل إذا قدم وجفَّ وصغر حجمه وانحنى، ثمَّ يُهلُّ في أول الشهر ويبدأ يزيد شيئاً فشيئاً حتَّى يتمَّ نورُه ويتسق ضياؤه، فما أعظمها من آية، وما أوضحها من دلالة على عظمة الخالق، وعظمة أوصافه سبحانه، ولا ريب أنَّ التَّأملَ في هذه الآية وغيرها مِمَّا دعا الله عباده في كتابه إلى التفكر فيها وتأمُّلها يهدي العبدَ إلى العلم بالربِّ سبحانه بوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وسعة علمه وكمال حكمته، وتعدد برِّه وإحسانه، ومن ثمَّ يُخلص الدِّينَ له ويُفردُه وحده بالذُّلِّ والخضوعِ والحبِّ والإنابة والخوف والرجاء، فهي دلائلُ ظاهرة وبراهينُ واضحة على تفرُّد الله بالربوبية والألوهية والعظمة والكبرياء.
وأما الذكر الذي حث عليه نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقوله عند رؤية هلال رمضان وغيره من الشهور هو ما أخرجه الترمذي عن طلحة رضي الله عنه: “أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَأَى الهِلاَلَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِيَ وَرَبُّكَ اللهُ”.
فقوله: “إذا رأى الهلال” الهلال هو طلعة القمر لليلتين أو لثلاث، وفي غير ذلك يُقال له قمر.
وقوله: «أهلَّه علينا» أي أطلعه علينا، وأرنا إيَّاه.
وقوله: «باليُمن والإيمان» واليمن هو السعادة، وفي رواية أخرى (بالأمن) والأمن هو الطمأنينة والراحة والسكون والسلامة من الآفات والشرور.
والإيمان هو الإقرار والتصديق والخضوع لله، وهو الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
والإيمان بالله هو الإيمان والإقرار بوجوده وتفرده بالخلق والرَّزق والإماتة والإحياء والتصرف في الكون وأنه لا شريك له في ذلك.
والإيمان بأنه المستحق للعبادة المتفرد بالألوهية فلا يُعبد إلا هو ولا يصلى ولا يُسجد إلا له، ولا يُذبح ويُنذر إلا له سبحانه.
والإيمان بأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والإيمان بملائكته وأنهم خلق من خلقه خلقهم من نور، وهم ذووا أجنحة، وعدد كثير لا يعلم عددهم إلا هو سبحانه.
والملائكةُ منهم الموكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقَطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالحفظ، والمُوكَّلون بالجنَّة، والمُوكَّلون بالنار، والمُوكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون.
والإيمان بالكتب المنزلة على أنبياء الله، كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل، والقرآن وأنه كلام الله تعالى.
والإيمان بالرسل والأنبياء، وما أخبر الله عنهم في كتابه، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فتجب محبتهم ومحبة نبينا ويجب اتباعه والعمل بما شرع، فمحبته محبة لله عز وجل واتباعه هو تباع الله عز وجل.
والإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكلُّ شيءٍ لا يخرج عن قضاء الله وقدره وخلقه وإيجاده.
وقوله: “والسلامة والإسلام” السلامة هي الوقاية والنجاة من الآفات والمصائب، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه.
وجاء تفسير الإسلام في حديث جبريل الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عمر، قال: والإسلام أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيتَ إن استطعت إليه سبيلاً.
ثم قال في آخر الحديث: أي حديث رؤية الهلال: “ربِّي وربُّك الله” ففيه بيان أنَّ الكلَّ مربوب مخلوق لهذا الرب العظيم، الذي لا يستحق العبادة والإنابة والخضوع إلا هو سبحانه، لا أكبر المخلوقات كالسموات والأرض والشمس والقمر، ولا أحقرها وأصغرها كالإنسان الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فكيف يملكه لغيره من بني جنسه، وفي هذا ردٌّ على مَن عبد أحداً من المخلوقات من دون الله ﴿ومن آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾.
من فوائد الحديث
أنَّ الأمنَ مرتبطٌ بالإيمان، والسلامةَ مرتبطةٌ بالإسلام، فالإيمان طريق الأمن والأمان، والإسلام طريق السلامة، ومن رام الأمن والسلامة بغيرهما ضلَّ، والله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون﴾.
ومن فوائد الحديث أنَّ فيه لفتةً كريمةً إلى أنَّ أهمَّ ما تُشغل به الشهور وتُمضى فيه الأوقات هو الإيمانُ بالله وبما أمر عباده بالإيمان به، والاستسلامُ له سبحانه في كلِّ أحكامه وجميع أوامره.
قال ابن القيم رحمه الله: “السَّنَةُ شجرة، والشهورُ فروعها، والأيامُ أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنَّما يكون الجَذَاذ يوم المعاد، فعند الجَذاذ يتبيَّن حلوُ الثمار من مُرِّها” اهـ.
وأعظم الشهور مرورا على الإنسان هو شهر رمضان المبارك، شهر النفحات والخيرات وإقالة العثرات، يستوجب من العبد القيام بحقه من صيام وقيام وقراءة القرآن، وغير ذلك مما يقرب إلى الرحمن.
ورحم الله الإمام محمد البشير الإبراهيمي إذ يقول: “إن رمضان يحرك النفوس إلى الخير، ويُسكنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقها من أسْر العادات، ويُحررها من رق الشهوات، ويجتثُّ منها فساد الطباع ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيامه بمحكمات الصبر ومثبَّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقُرب منه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *