وإنك لعلى خلق عظيم وكفى عبد المغيث موحد

أجدني أستثقل كلمة الإساءة والازدراء بشخص رسول الله؛ وقد كنت ولا أزال أبحث في أم اللغات وأفضلها بغير دعوى إحاطة واستيعاب؛ فلا أجد كلمة أتمثل بها ما فعله الصغراء في حقنا أمة الإسلام لا في حق نبينا نبي الرحمة المهداة، ذلك أننا قد نسلم بأن الذين أساءوا لنبينا كانوا صناديد الكفر من فخدة قريش يوم كانت الدعوة في مهد الغربة فوضعوا على رأسه الشريف وهو ساجد ما وضعوه، ولقي منهم ما لقي في رحلته إلى الطائف، وتوج هذا كله بقول الله عز وجل لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}، وقرر كمالا هذه الكفاية باستفهام تقريري إذ قال جل جلاله{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، وزاد استفاضة بقوله سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، وسيد المؤمنين ولا فخر محمد صلى الله عليه وسلم.
إن كلمة الإساءة لا تحرك قسطاس المحبة ولا ينخلها منخال العقيدة، إذ كيف يستطيع أحد كائنا من كان أن يسيء لحبيبنا على الحقيقة، وهو من هو عليه الصلاة والسلام، هو الذي أدى الأمانة؛ ونصح الأمة؛ وكشف الله به الغمة؛ وأتم الله به النعمة؛ ومحا به الظلمة؛ وأزاح به العتمة؛ وتركنا على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.
وكم على هذه البيضاء دخل في الإسلام من إنس وجن بسيب عفو هذا النبي ورحمته، بسبب إيثاره وجوده، بسبب عدله ومروءته، بسبب زهده وافتقاره، بسبب قوته وبأسه وشجاعته، هو من هو سيد البشرية ولا فخر.
لم تمنعه جسامة المسؤولية وعظمة الرسالة من أن يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويصنع ما يصنع الرجل في أهله، كما تحكي أمنا الصديقة بنت الصديق.
هو من هو؛ سيد ولد آدم ولا فخر تأتيه الأمة من أهل المدينة فتأخذ بيده الشريفة فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة في حاجتها، وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: “لا”. وهذا أنس رضي الله عنه يحكي عن صحبته للرحمة المهداة ويقول: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفّ قط؛ ولا قال لي شيء: لم فعلت كذا؟ وهلاّ فعلت كذا؟
هو من هو؛ يأتيه الأعرابي فيأخذ بردائه ويجذبه جذبا شديدا يقول الراوي حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت فيه حاشية الرداء؛ ثم يقول له يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك؟ فيلتفت إليه الرحمة المهداة ضاحكا ثم يأمر له بالعطاء وأي عطاء؟ عطاء من لا يخشى الفاقة.
لقد كان رسول الله أجود الناس بالخير بل كان أجود بالخير من الريح المرسلة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم تواضعه يركب الحمار بل من كمال تواضعه يردف خلفه. وكان عليه الصلاة والسلام يجلس على الأرض؛ ويضع طعامه على الأرض؛ ويأكل على الأرض؛ ويعتقل الشاة؛ ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير والإهالة السّنخة؛ وهي الشحم الرديء.
وكان عليه الصلاة والسلام يصغي الإناء للهرة فتشرب ثم يتوضأ بفضلها. وكان عليه الصلاة والسلام يتخلف في المسير ليزجي الضعفاء ويسوقهم برفق ويردفهم ويدعو لهم، وهذه أمنا خديجة رضي الله عنها تجمل القول في صدقه وأمانته ومسارعته في الخيرات زمن قبل النبوة وتقول: “كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق”.
هذا وأنّى للمرء أن يسترسل مع بحر مناقب هذا النبي الأمي الذي ملأ الدنيا علما وعدلا وفضلا، أنّى للمرء أن يستوعب ذكر أخلاق هذا العظيم الذي منّ الله علينا بمبعثه إذ من نحن قبله؟ قوم على شر وجاهلية.
وأي قيمة لنا في سوق البشرية دون دينه وشريعته؟
فيا له من رحمة مهداة ويا له من نعمة مسداة!
به تم الإرشاد والهداية وعلى يديه تم الإخراج من الظلمات إلى النور، ففتح الله لنا به أبواب الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة وجزاه الله عن سيره وسيرته بأوفى الجزاء وأجزل المتوبة، فأعطاه الوسيلة والفضيلة وبعثه المقام المحمود، ومنّ عليه بالشفاعة العظمى، فإليه يفزع الناس يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولطرقه تفتح أبواب الجنان، فيا فوز من سار في ركبه، وشرب من حوضه، ونال من شرف الانتساب إلى أمة إجابته، ويا حسرة من هم اليوم في غمرتهم يعمهون ويتغامزون، وغدا يقولون يا ليتنا اتخذنا مع الرسول سبيلا.
وهل بعد هذا يأتي الآتي ويقول لقد أسيء إلى رسول الله: لا وألف لا إن الإساءة إن كان ثمة إساءة فهي لأمته التي صار بينها وبين ميراثه الشريف برزخ لا يبغيان، بل صارت تركته الشريفة تنعت من كل ناعق بالظلامية والوراء والرجعية والتطرف والإرهاب، بل واندرست سننه واستبدلت بالبدع والمحدثات التي صار لها الإلف وصارت في الواجهة وصار السير على هديه في غربة غريبة وفعلة عجيبة.
وهذه صنائع الإفك والمروق بادية في أفعال الطرقية والخرافيين من نذور استغاثة وتضرع لغير الله؛ وذبح على النصب؛ استقسام بالأزلام الجديدة؛ فكم من قبر يعبد؛ وكم من حفرة وكم من شجرة وكم من خربة صار لها التقديس وتفرقت بينها بالاختصاص ربوبية الرب وألوهية الإله الحق. فهذه تعطي الولد وهذا يزوج الذكران والإناث وآخر يعطي الرزق ورابع يجود بالصحة والعافية وخامس يرد الغائب وسادس يداوي المجانين وسابع وثامن وحبل الأنداد عريض طويل يطوق جيد التوحيد ويقعد طريق العبيد..
وهذه صنائع الإفك والمروق ظاهرة في أقوال الشيعة الروافض وأفعالهم فلا تزال الأفئدة والأفمام ناضحة باتهام أمهات المؤمنين والقدح بكل مقدوح في بيت النبوة، وتجريح عدولنا نقلة الوحي حواريي رسول الله ونبزهم بالفسق والفجور واللواطة والردة والكفر، بل صار أطفالنا يذبحون ويقتلون بفتاوى ماجوسية صفوية حاقدة وافدة على سوقنا من حوزات الغدر ومشاهد الهدر الإسلامي..
وهذه صنائع الإفك والمروق جلية واضحة في أقوال بني علمان ونظريات الحداثة والمعاصرة التي تسعى اليوم بالوكالة المفوضة من محاضن الغرب الصليبي الحاقد وبشعارات محاربة التطرف والإرهاب والظلامية والتقعيد للمفاهيم الكونية والإنسانية من تسامح وتخاذل وانبطاح وبدعوى اللحاق بالركب الحضاري الغربي الذي قطع أشواطا في ظاهر الحياة الدنيا تسعى إلى تفويض دور الدين الإسلامي ومطاردته بجفاء وجفوة، واجثتات تمظهراته من حياة الناس في معاملاتهم بشتى أنواعها؛ وحصر دوره الشريف وقصره بمفهوم كنسي محض في دور العبادة وأديرة الشعيرة، وهذا إلى حين الإجهاز عليه بالكلية وإراحة أهل الحداثة وعباد الحرية والتحرر البهيمي من قيوده التي لا تساق ولا تطاق، وهو سعي لم يسلم منه لا ربنا العليم ولا قرآننا الكريم ولا نبينا الحليم، فالكل جعل في حقل التجربة وطبقت عليه نظريات “الطاولة الجرداء” ونظريات الشك والنسبية العابثة بالمحكم والقطعي، والويل لمن عارض أو ناظر أو طارح فإن تهم الوهابية والظلامية والسلفية الجهادية مفصلة على المقاس الذي يرمى به المرء في جب الضنك وغيابات الترك.
وحاصل القول وأننا وسواء سلمنا بهذا الطرح أو سلمنا بأن ثمة إساءة إلى شخص الرسول الكريم فعلينا أن نقرن هذا التسليم بمسلمتين اثنتين؛ أولهما: أن في هذه الإساءة بشائر خير؛ ذلك أن الله منتقم لرسوله لا محالة، وثانيهما: أننا نحن الذين أعطينا الإشارة الضوئية الخضراء لكل علج من علوج الغرب حتى اقتحم بوابة مقدسنا، بل كان لنا التشارك بالامتياز والوكالة مع هؤلاء الذين نراهم اليوم حسدا من عند أنفسهم يريدون النوال من سيرة سيد الخلق، وأنّى لهم ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وكيف لا يكون لنا التشارك بالامتياز والوكالة ونحن نرى اليوم العلمانية العربية يسعى روادها في جهد جهيد للنفخ في رماد اتهامات قريش القديمة.
فها هو العلماني الحقير صادق جلال العظم في كتابه “ذهنية التحريم” يسوق جملة من الأسئلة المارقة الناضحة بمكنون حقده الدفين ويقول: “هل كان مجرد الأمين اليتيم والفقير الذي تحكى عنه روايات التقوى والورع؟ أم كان تاجر ترانزيت محنكا حيسوبا؟ هل كان بانيا لمثل روحية عليا مجسدا لها؟ أم كان زير نساء؟ ثم يردف مستهزئا متنقصا -عامله الله بما يستحق-: ماذا يعني من منظور علم النفس والتحليل النفسي زواج النبي لأول مرة من امرأة تصلح لأن تكون والدته ومن ثمّ ولعه اللاحق بفتيات هن في سن بناته؟
ونحن بدورنا نتساءل ونقول وهل كان هذا الفيلم المسيء إلا إجابة وتشخيصا لمثل هكذا استفهامات؛ وعلى مثل هكذا جرأة وحقارة من الذين فعلت لهم النسيكة وذبحت لهم الشاة وحلق لهم زغب الأذى وسموا بأفضل الأسماء.
واليوم ولما اشتد العود؛ هدموا الطود واقتحموا عقبة الإسلام، فما أفلسهم وما أصبرهم على النار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *