قبل أن يدنس الأقصى من طرف الصهاينة ويحكمون قبضتهم عليه كان هناك عمل عقود من الزمن للوصول إلى هذه النتيجة، والتي هي محطة تسبق مرحلة النهاية والمؤمل من عمل يهود.
للعودة إلى الأصل في حال الأقصى ينبغي الرجوع إلى الحالة الأصل لواقع المسلمين، حين كان الأقصى شريفا مهاب الجانب تحت رعاية المسلمين.
منذ عقود والأقصى المبارك وما حوله يرزح تحت وطأة تدنيس اليهود، وكل تلك العقود والأقصى كان محط اهتمام المسلمين عموما، ومن خلال التأمل والملاحظة تبدى أن الأقصى صار فيما بعد قضية لمن لا قضية له، ووسيلة تمتطى لمآرب شتى، باعتبار قداسته ومكانته في قلوب المسلمين فكان كل من أراد دغدغة مشاعرهم يتناول قضيته ويجعلها في صلب اهتمامه ويوزع الوعود والوعيد هنا وهناك.
واجتمع على القضية أناس من مشارب لا رابط بينها، منهم الإسلامي واليساري والعلماني والملحد ومن لا دين له… وكم أقيمت من لدن هؤلاء وأولئك الأمسيات واللقاءات والندوات والحفلات و… من أجل الأقصى وفلسطين، وكم التحف الكوفية الفلسطينية كل دعي ودخيل ووصولي ومغرر به.
والذي تأكد من كل هذا أن القضية لم تزل في تنزل من مكانتها في قلوب المسلمين، وأن الأشعار والأغاني الحماسية والخطب النارية لم تقدم ولم تأخر للقضية، بل كانت في كثير منها حبوبا منومة لجماهير المسلمين وصارفا عن السبيل السوي لتطهير الأرض المقدسة من دنس اليهود الصهاينة الصليبين. حتى قيل أن مغنية قالت أنها لن تضحك حتى تتحرر القدس!؟ عبث ومهازل.
قضية الأقصى وفلسطين عموما هي قضية إسلامية، وقد كان العمل على تجريدها من هذا الشرف، ولكن دون جدوى فذلك تقدير العزيز العليم.
وقد بين الله في محكم كتابه أن الأقصى سيحرر وهذا أمر يؤمن به جل المسلمين بل حتى اليهود أنفسهم، ومما لا شك فيه أن من سينال شرف هذا الوعد الرباني لا وجود له الآن، أو هو في طور التشكل، وهو ما يؤكد تأخر هذا النصر الموعود، لأن الله تعالى جعل ذلك على يد رجال وصفهم بوصف العبودية في كتابه العزيز.
وهذا الوصف لا يتحقق به كل من هب ودب، ويكفي أن الله وصف به نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام في غير ما موضوع مما يدل على علو هذا المقام الذي لا يبلغه إلا نبي وصفوة من خلق الله، وشهادة الله به لأحد من خلقه دليل على صدقه وتحققه بكل مقتضياته.
لذلك حين يوجد هذا الجيل الذي يتحقق بمعنى العبودية التي لا يخالطها شائبة من هوى او انحراف عن منهج الله الحق حينها فلنبشر بوعد الله.
ولذلك ينبغي لكل العلماء والدعاة والذين يحملون هم الأقصى أن يوفروا الجهد من أجل تربية أنفسهم أولا، وباقي الأمة على التحقق بمعنى العبودية الحقة. وأن توجه الجهود إلى هذه الجهة عوض تهييج الأمة وتنفيرها نحو بيت المقدس وهي لا زالت تسبح في أودية الهوى والشهوات والفتن والملذات، حتى من يحسب على التوجه الإسلامي لم يسلموا من ذلك، والواقع خير شاهد.
فأمر الله واضح وخطابه بين “بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا”. ولذلك كان هذا الشرف لثلة صالحة صادقة فنيت في طاعة الله وتحققت بمراد العبادة من الخلق ففتحها عمر رضي الله عنه وجنده.
وحررها صلاح الدين الأيوبي الذين لم ينزل عن صهوة جواده حين تولى الإمارة، وحين وصله نداء الأقصى لم يطعم طعاما، ولم يفرح بأكل ولا نوم، وسعى في ذلك بعد أن وحد البلاد وجمع كلمتها على الإسلام، وأخلى ساحته من الأعداء الداخليين من الخونة والمنافقين وعبدة الدرهم والدينار، ثم توجه إلى بيت المقدس ليتوج فتوحاته الحافلة بالانتصار لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللإسلام.
وعليه فإن تحرير الأقصى لابد أن يمر من تحرير أنفسنا من دنس الأهواء، وعلاقاتنا من شر الجفاء، وبلداننا من سوء التشرذم والعداء.
بل كيف نسعى في تحرير المسجد الأقصى من قبضة يهود والصليبين ونحن في قبضتهم؛ أسارى لإعلامهم واقتصادهم وسياستهم وتعليمهم وطريقة عيشهم…
إن الوقفات والتنديدات ما هي إلا مسكنات، وكم من وقفات وصرخات وتنديدات من عشرات السنين ولم يزدد الحال إلا سوء، أفلا يدل ذلك على أن هناك خللا؟ وأن الطريق السوي يقتضي الوقوف مع حال الأمة أولا لتحريرها من سطوة اليهود والصليبين. قبل الحديث عن تحرير القدس.
والأسوأ من ذلك أن من يوجه إليهم نداء الصلاة في الأقصى لم يصلوا حتى في المساجد المجاورة لهم، ومن يوجه لهم نداء تحرير المسجد الأقصى كثير منهم يدنس مساجدنا اليوم بالمغرب الأقصى وغيره من البلاد، حيث صارت مساجدنا محاطة بمظاهر من الخنا والانحلال، وقبلة لطالبي المتعة الحرام وشرب الخمور وتدخين الحشيش، وجوارها صار فضاء لنصب منصات الغناء وما يصحبه من تحرش وانحلال ورقص وخنا.
يوم نحرر مساجدنا من هذه المظاهر المشينة التي تسيء إلى حرمة بيوت الله وجوارها، ونحرر أنفسنا من قبضة الشهوات والأهواء، وتربيتها على الخضوع التام والمطلق لمراد الله ورسوله، حينها يمكن الحديث عن تحرير الأقصى. والله المستعان.