أهمية مجالسة أهل العلم لاكتساب الخلق الحسن والأدب الرفيع

عن سَعْد بْن هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أنه سئل عائشة رضي الله عنها، فقال: (يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنَ) رواه مسلم (746).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ) رواه البخاري في “الأدب المفرد” (273) والإمام أحمد في “المسند”  (4/512 – 513). وصححه الألباني في “صحيح الجامع” (2349).

قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: “وهذا الحديث يتصل من طرق صحاح، عن أبي هريرة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم” انتهى. “التمهيد” (24/333).

روى الخطيب البغدادي بسنده عن سفيان بن عيينة، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمِيزَانُ الْأَكْبَرُ، فَعَلَيْهِ تُعْرَضُ الْأَشْيَاءُ، عَلَى خُلُقِهِ وَسِيرَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَمَا وَافَقَهَا فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَهَا فَهُوَ الْبَاطِلُ” انتهى من “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” (1/79).

لكن؛ كون الأخلاق والآداب مصدرها الكتاب والسنة، لا ينافي هذا أن للعالم دورا كبيرا في تأديب طلابه، فالشيخ ليس أساسا للأدب والخلق لكنه وسيلة فعّالة لاكتساب ذلك؛ ولهذا أوصى أهل العلم الطالب أن يختار في تعلمه الشيخ العامل بعلمه، الذي يظهر عليه خلق الكتاب والسنة.

قال ابن مفلح رحمه الله تعالى: “وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه وقد روي هذا المعنى عن جماعة” انتهى من “الآداب الشرعية” (1/418).

قال ابن جماعة رحمه الله تعالى: “ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته، وتحققت شفقته، وظهرت مروءته، وعرفت عفته، واشتهرت صيانته…

ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين، أو عدم خلق جميل، فعن بعض السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم”. انتهى (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم:96).

إن المعضلة الكبرى: ليست هي مجرد “معرفة” الفضائل والرذائل، فعامة الناس يعلمون: أن الصدق حسن، والكذب قبيح، وكم من الناس من يكذب، وكم من الناس من يخون، وكم، وكم.

إن المعضلة -حقا- والفارق بين “الصدق” والدعاوى، إنما تكمن في “العمل” بهذا العلم، والصبر عليه، ومجاهدة النفس على هواها، وما تشتهي.

وهذه وظيفة العالم الرباني؛ أن يربي الناس على ذلك، ويؤدبهم به.

قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران/79.

قال البغوي رحمه الله، في تفسير “ربانيين”: “وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ: كُونُوا فُقَهَاءَ علماء، وقال قتادة: حكماء علماء، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْعَالِمُ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فُقَهَاءَ مُعَلِّمِينَ.

وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كباره.

وقال عطاء: حكماء علماء نُصَحَاءَ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ .

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَجُلًا عَالِمًا يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ والأمر والنهي العارف بِأَنْبَاءِ الْأُمَّةِ، مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ.

وَقِيلَ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ، والأحبار فوق الْعُلَمَاءُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ الْعِلْمِ الْبَصَارَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ..

وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: هُمْ أَرْبَابُ الْعِلْمِ سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ يُرَبُّونَ الْعِلْمَ، وَيَقُومُونَ بِهِ وَيُرَبُّونَ الْمُتَعَلِّمِينَ بِصِغَارِ الْعُلُومِ قَبْلَ كِبَارِهَا، وَكُلُّ مَنْ قَامَ بِإِصْلَاحِ الشيء وَإِتْمَامِهِ فَقَدْ رَبَّهُ يَرُبُّهُ..” انتهى، من (تفسير البغوي1/463).

وحاصل ذلك:

أن هذه هي وظيفة العالم الرباني: أن يقوم في الناس بالعلم الذي علمه الله؛ يعلمهم إياه، ويسوسهم، ويربيهم ويصلح أمرهم بمقتضى ذلك. ثم مع ذلك، وربما فوق ذلك: أن يسير فيهم بعلمه الذي علمه الله، حتى إنهم ليرون فيه: واقعا عمليا، لذلك العلم الذي تعلموه.

يرُوى أنَّ الأحنف بن قيس قال: “كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم، كما نتعلم الفقه”.

وكان أصحاب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يرحلون إليه، فينظرون إلى سمته، وهديه، ودَلَّه، قال: “فيتشبهون به”.

وقال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: روى أبو الحسين بن المنادي بسنده إلى الحسين بن إسماعيل قال: سمعت أبي يقول: “كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زُهاء على خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقي يتعلمون منه حُسنَ الأدب، وحسن السمت”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *