مِنْ فضل الله تعالى ورحمته أن جعل الإسلام هادماً لِمَا كان قبله من الكفر والذنوب والمعاصي، فإذا أسلم الكافر غفر الله عز وجل له كل ما تقدَّم مِنْ فعله أيام كفره، وصار نقياً من الذنوب كلها، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال:38).
قال ابن كثير: “يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} أي: عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، يُغْفَر لهم ما قد سلف، أي: من كفرهم، وذنوبهم وخطاياهم”.
والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحداث الدالة على أن الإسلام يهدم ويمحو ما كان قبله من كفر، ومن ذلك:
ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أنَّ قوماً كانوا قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، وانتهكوا، فأتَوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا محمَّد! إنَّ الَّذي تقول وتدعو إليه لَحَسَن! لو تُخبِرنا أنَّ لِمَا عمِلنا كفَّارة؟ فأنزل الله عزَّ وجّل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ} إلى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70:68)، قال: يُبدِّل اللهُ شِركَهم إيماناً، وزناهم إحصاناً، ونزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الزُّمر:53)) رواه النسائي وصححه الألباني.
ـ عن عبد الرحمن بن شِمَاسَة المهْري قال: (حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت (في حال حضور الموت) فبكى طويلا، وحوّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، قال: فأقبل بوجهه، فقال: إنّ أفضل ما نعدّ: شهادة ألا إله إلّا الله وأنَّ محمّدا رسول الله، إنّي كنت على أطباق ثلاث (أحوال ثلاث): لقد رأيتُني وما أحد أشدّ بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منّي، ولا أحبّ إليَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو متّ على تلك الحال، لكنتُ من أهل النّار، فلمّا جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه قال: فقبضت يدي، قال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردْتُ أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغْفَر لي، قال: أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟!) رواه مسلم.
وفي رواية لأحمد صححها الألباني، قال عمرو بن العاص: (فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو أما علمتَ أن الهجرة تجبُّ (تمحو وتهدم) ما قبلها من الذنوب، يا عمرو: أما علمتَ أن الإسلام يجب ما كان قبله من الذنوب).
قال النووي: “قوله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يهدم ما كان قبله) أي يسقطه ويمحو أثره .. أما أحكامه (هذا الحديث) ففيه عِظَم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحدٍ منها يهدم ما كان قبله من المعاصي”.
وقال الطيبي: “الإسلام يهدم ما كان قبله مطلقا، مظلمة كانت أو غير مظلمة، كبيرة كانت أو صغيرة، فأما الهجرة والحج فإنهما لا يكفران المظالم، ولا يقطع فيهما أيضا بغفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيُحْمَل الحديث على أن الحج والهجرة يهدمان ما كان قبلهما من الصغائر، ويحتمل أنهما يهدمان الكبائر أيضا فيما لا يتعلق به حقوق العباد بشرط التوبة، عرفنا ذلك من أصول الدين، فرددنا المُجْمَل إلى المُفصَّل، وعليه اتفاق الشارحين”. وقال المناوي: “وإنما ذكر الهجرة والحج مع الإسلام تأكيدا في بشارته وترغيبا في متابعته، وفيه عظم موقع كل من الثلاثة، وأن كل واحد بمفرده يكفر ما قبله ذكره شارحون”.