وقفات تربوية مع بعض الوصايا النبوية -الحلقة الثالثة- محمد الدرداري

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل؛ ثم قال لي: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة».(1)
لقد اشتمل هذا الحديث على مواعظ جليلة وفوائد ثمينة، منها:
الفائدة الأولى: أسلوب نبوي راقي في التربية
المعروف من كتب السيرة أن أنس بن مالك تربى على يد الرسول العظيم تربية خاصة، فمنذ أن بلغ العاشرة من عمره أتت به أمه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ليخدمه ويتربى على يديه، فقالت له: «هذا أنس غلامٌ يخدمك».(2)
والملفت للنظر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يتعامل مع خدمه معاملة السيد للعبد، بل كان في غاية الرقة والرأفة بهؤلاء، فنجده يخاطب أنس في هذه الوصية بقوله: «يا بني» وهو أسلوب من شأنه أن يترك أثره الكبير في نفس أنس، خاصة وأنه نشأ يتيما.
يقول أنس رضي الله عنه متحدثا عن الفترة التي قضاها في خدمة النبي عليه الصلاة والسلام: «خدمتُ النبي عشرَ سِنين بالمدينةِ، وأنا غلام ليس كل أمري كما يشتهي صَاحِبي أن أكونَ عليه، ما قال لي فيها أفٍّ قطٌّ، وما قال لي: لِمَ فعلتَ هذا؟ ألاَّ فعلتَ هذا».(3)
ولما أراد رسول الله أن ينصح معاذا في شأن من شؤون الصلاة لم يبادر إلى ذلك مباشرة، بل سعى في تهييئ روحه، وإعداد نفسه، حتى تقبل بالنصيحة، فكان أن أخبره بأنه يحبه في قوله عليه الصلاة والسلام: «إني لأحبك يا معاذ» فكان من الطبيعي أن يبادر معاذ إلى إعلان محبته الخالصة للنبي في قوله: «وإني لأحبك يا رسول الله» وبعد هذا الإعداد النفسي كانت روح معاذ تتوق إلى الاستماع إلى مضمون النصيحة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».(4)
إن الأسلوب النبوي في التربية لم يكن في عمومه قائما على الأوامر والنواهي المباشرة، بل كان منهجا متكاملا يلامس جوهر الخلل أو النقص في نفس الإنسان، فيعالجه في ضوء الحاجيات النفسية والروحية لكل فرد.
الفائدة الثانية: من سنة النبي سلامة القلب من الغش
يقول الإمام الكفوي: «الغش سواد القلب، وعبوس الوجه، ولذا يطلق الغش على الغل والحقد».(5)
«والغش: الغلّ والحقد، وقد غشّ صدره يغشّ إذا غلّ. وقال ابن منظور: الغشّ نقيض النّصح، وهو مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر».(6)
فالغش في ضوء هذه المعاني لا يقتصر على المعاملات المحسوسة بين الناس، بل يشمل ذلك ويتعداه إلى المشاعر القلبية، التي هي أصل كل خير أو شر في الإنسان، يؤيد ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ».(7)
فمن صور سلامة القلب من الغش أن يخلص المرء النصح لأخيه وهو ما أشار إليه الكفوي في قوله السابق، والنصيحة تكون بالإخلاص في تعليم الناس ما يجهلونه من أمور دينهم ودنياهم، برفق وتوقير ورحمة، وأن يحب لهم ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
وقد عد ابن حجر الغش في النصيحة «من الكبائر الباطنة، لأن مرجعها سواد القلب، وينطبق عليها ما ينطبق على سائر الكبائر الباطنة التي يذم العبد عليها أكثر مما يذم على الزنا والسرقة وشرب الخمر».(8)
ومن صوره: الغش في المحبة، وهي أن يظهر المرء لغيره الحب والاحترام والإخلاص… وهو في الأصل غاش له، كمن يظهر له ذلك من أجل الوصول إلى أغراض شخصية معنوية كانت آم مادية.
ومن صوره: غش الرعية، فعن معقل بن يسار المزني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة».(9)
ومما يدل على فضل سلامة القلب من الغش ما رواه جابر قال: خرج إلينا رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: «يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»؛ ثُمَّ يَوْمٌ آخَرُ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ غُلامٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَاتَّبَعْتُ الْغُلامَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي مَا عَمِلْتَ، فَقَالَ: مَا فِي عَمَلِي شَيْءٌ أَرْجُوهُ، إِلا أَنِّي لا أَبِيتُ لَيْلَةً وَفِي قَلْبِي غِشٌّ عَلَى مُسْلِمٍ؛ قَالَ: فَبَشَّرْتُهُ.
الفائدة الثالثة: من أحب النبي أحيا سنته
إن حب النبي عليه الصلاة والسلام من لوازم الإيمان، وهذا الحب ليس شعارا تلوكه الألسنة في المجامع والمنتديات، بل هو سلوك عملي يظهر في حياة الإنسان المؤمن من خلال تعليم الناس السنة، والعمل والالتزام بها، ونقلها، والدفاع عنها، وتنقيتها مما أدخل فيها مما ليس منها… وغير ذلك من صور خدمة الميراث النبوي.
وقد أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام في فضل إحياء السنة النبوية أحاديث كثيرة، منها ما رواه عَمْرو بنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن أبيه عن جده أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً».(10)
وَعَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ».(11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(1) سنن الترمذي، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، حديث رقم: 2678.
-(2) سبل الهدى والرشاد، محمد الشامي، دار الكتب العلمية بيروت، ط. 1، 1414هـ، ج. 9، ص: 401.
-(3) سنن أبي داود، باب في الحلم وأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام، حديث رقم: 4774.
-(4) صحيح ابن خزيمة، بَابُ الْأَمْرِ بِمَسْأَلَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ، الْمَعُونَةَ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، وَالْوَصِيَّةِ بِذَلِكَ، حديث رقم: 751.
-(5) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، مجموعة من الباحثين، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة، ط. 4، ج. 11، ص: 5070.
-(6) نقلا عن المرجع الأخير، ج. 11 ص: 5069.
-(7) البخاري، باب فضل من استبرأ لدينه، حديث رقم: 52؛ ومسلم، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، حديث رقم: 1599.
-(8) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، ج. 11 ص: 5070.
-(9) سنن الدارمي، بَابٌ: فِي العَدْلِ بَينَ الرَّعِيَّةِ، حديث رقم: 3003.
-(10) مسند البزار، حديث رقم: 3385.
-(11) الأوسط للطبراني، باب من اسمه محمد، حديث رقم: 5414.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *