إن مصالح الأمة كمصالح الملة، يحتاج قيامها على أحسن حال إلى الإخلاص والكفاءة والنشاط، ولا يخفى أن الإخلاص للمبدأ يعتمد التفاني في خدمته، ونشر الدعوة له، وحياطته وصيانته عن تلاعب أصحاب الأغراض والأطماع الشخصية به، مهما كلف الحال المومنين به من تضحية بالنفس والمال فما دون ذلك.
وأن الدولة والأمة إذا طال فيهما عهد الاستقرار قد لا يعرف غير النابهين المومن الصادق من المداهن المنافق، فيكثر المدعون للإخلاص والعمل به، دون حاجة إلى إقامة الحجج والبينات على صدق الصادقين وكذب المداهنين المتملقين، ولكن إذا اضطربت الحال، وأبرزت الخطوب أنيابها، وأظهرت الظروف الحرجة صعابها، هناك فقط يعرف إخوان الكذب والرخاء من أهل الصدق والوفاء، فجزى الله أيام الشدة كل خير، فهي المعيار الحقيقي والامتحان الصادق للأخيار والأشرار، وكم من محنة في طيها نعمة، يعلم بها الأمين من الخائن والصادق من الكاذب والطيب من الخبيث، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، كما قال الله تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ”.
وإن في تقلبات الأحوال من انتصار وانكسار لعبرا ومواعظ لأهل الاستبصار، لا ينبغي أن يهمل الاتعاظ بها الأحرار، ولنا معشر المسلمين في سيرة نبينا ما يضيء أمامنا السبيل، ويكون في عهد الاستقلال خير دليل، فقد نصر الله المسلمين على أعدائهم يوم غزوة بدر وهم أذلة، فبوأهم من الكرامة والعزة مكانة مرموقة، انتشر لهم بها الذكر الجميل، وأبقى الله ذكرى غزوة بدر علما على انتصار الإسلام الخالد في كل تاريخ وجيل، فقال رأس المنافقين إذ ذاك عبد الله بن أبي بن سلول: “هذا أمر قد توجه” ودخل في الإسلام كما في صحيح البخاري، ولكن الله سبحانه اقتضت حكمته أن تأتي بعد ذلك النصر غزوة أحد، كامتحان لصدق إيمان الصادقين وافتضاح نفاق المداهنين، ليقوم بناء الإسلام على أساطين المخلصين ولا يتولى شؤون أهله إلا من عرف بالصدق وقوة اليقين، قال الحافظ ابن القيم في زاد المعاد: “إن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة (يعني غزوة أحد) ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمون، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق، انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم. قال تعالى: “مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ” آل عمران: 179. أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، كما ميزهم بالمحنة يوم أحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة. وقوله: “وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ” آل عمران: 179، استدراك لما نفاه من إطلاع خلقه على الغيب، سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء من غيبه، كما قال: “عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ” الجن: 26-27، فحظُّكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به وأيقنتم، فلكم أعظم الأجر والكرامة”.
وقد وقع امتحان الأمة المغربية في إيمانها وفي ولائها، والوفاء بوعودها، وبيعتها لإمامها والجالس على عرشها، والمحافظة على إسلامها وعروبتها، فكان امتحانا صعبا، أقام بين الخيانة والأمانة حربا، انتهت ببيان وتمييز الصادقين المخلصين، من أعوان الظلمة الخائنين، كما ميز الله في غزوة أحد المنافقين الخبيثين من المومنين الطيبين، فهل كان لهذا التمييز أثر في العهدين العهد النبوي الكريم وعهد استقلال المغرب الفخيم؟
الجواب عن هذا السؤال واضح من السيرة النبوية ومن مرحلة التطهير التي تسير فيها الحكومة المغربية، فإن رسولنا العظيم لم يكن يولي المنافقين على المسلمين أية ولاية، وكذلك لم يكن يولي من لم يحسن إسلامه، إلا ما كان من بعض المؤلفة قلوبهم الذين كانت لهم بين قومهم عصبية وشوكة، مثل عيينة بن حصن وأشباهه، فإنه كان يداريهم ويتألفهم بالعطايا حتى ينقادوا لحكم الله ورسوله، ويحسن إسلامهم.
وما عمل تطهير الإدارة ودواليب المصالح العامة في دوائر الحكومة المغربية من المتعاونين مع الاستعمار ضد مصلحة العرش والشعب إلا تطبيق لما توحي به السيرة النبوية التي هي قدوة للمسلمين في الاسترشاد بهدايتها لاتباع الحق وإقامة العدل، فإذا كمل هذا التطهير الذي ينادي به الشعب ويقتضيه الإخلاص لمصالح الأمة، فستسير المصالح العليا للأمة في الطريق المستقيم، وما الطريق المستقيم في هذا الموضوع غير التمييز التام بين المصلحين والمسيئين المفسدين، لأن الله سبحانه لم يجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ولم يجعل المتقين كالفجار، وهذا الإطلاق يشمل الحالة الدينية والدنيوية.
ولا ينبغي أن أهمل في هذا الحديث الإشارة إلى ما يخشى أن يجري في الأوساط من المساعي والوسائط، لغض الطرف عن بعض المتعاونين حتى تبقى لهم جميع اعتباراتهم، فالمجادلة عن الخائنين ليست محمودة في دنيا ولا دين، قال الله تعالى: “وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً”.
ثم إذا تم هذا التطهير الذي تشكر عليه الحكومة الموقرة كل الشكر، فستبقى هناك مشكلة أخرى أو قضية هامة أخرى يتساءل عنها كثير من المخلصين، وليس من حقي أن أسبق الحوادث فأدلي فيها بقول فصل، ولكني أطرحها على بساط البحث بمناسبة تأليف لجنة مراجعة تشريعات العهد البائد، وألقي حولها بعض التوجيهات راجيا أن تأخذها اللجنة التي يعنيها الأمر بالدراسة الوافية، تلك هي امتيازات وتعويض قدماء الموظفين في العهد البائد مع الموظفين في العهد الجديد، فإن امتيازات أولئك الموظفين القدماء ثبتت حسب نظام استعماري كانوا فيه مستسلمين لإرادته، وكان الموظفون الجدد في المعارضة بل في المقاومة معطلة مصالحهم، معذبة أجسامهم وأرواحهم، لا يحفظ لهم مال ولا يستقر لهم بال، ينتقلون بين السجون والمنافي، ويعيشون عيشة المحروم والعاني، حتى إذا طلع فجر الاستقلال، وجد أولئك المناضلون للاستعمار الموظفين القدماء المستسلمين للاستعمار سبقوهم في جميع الأحوال، وادخرت لهم أرصدة المعاش للمآل، فهل من الحق والعدل أن يقر هؤلاء على ما أعطاهم وخولهم النظام الاستعماري فيعطي لهم من ميزانية عهد الاستقلال، ويبقى الأبطال على هامش التعويضات محرومين؟!
قد يقال إن الحق يقضي بالتسوية بين الموظف القديم والموظف الجديد، ومحو آثار الامتياز تماما بينهما في العهد السعيد، وقد يقال إن الأولى أن يعطى الموظف الجديد امتيازا جديدا نظرا لسوابقه الحسنة وجهاده في شتى الميادين، وهذه مسألة قد أثارت انتباه الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء مال إلى أبي بكر الصديق فقسمه بين الناس بالسوية على الصغير والكبير والحر والمملوك والذكر والأنثى، فجاء ناس من المسلمين فقالوا يا خليفة رسول الله إنك قسمت هذا المال فسويت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل بفضلهم؟ فقال: أما ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك، وإنما ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة، فلما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجاءت الفتوح فضل وقال: لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه، وفي رواية أخرى: أن أبا بكر رأى في هذا المال رأيا ولي فيه رأي آخر، لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه. ففرض للمهاجرين والأنصار خمسة آلاف خمسة آلاف، وفي نفس هذه الرواية، وفرض لأهل مكة والناس ثمانمائة ثمانمائة، فعمل عمر بهذا خلافته، رواه أبو يوسف في كتاب الخراج.
وهذا ما يؤكد جانب مراعاة السوابق الحسنة لأهلها ومحو آثار الامتياز الاستعماري، والحكومة الآن بيدها حق النظر المطلق في مصلحة جميع الطبقات، ومن جهة أخرى فإن النقل يبين لنا أن العفو الذي صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في حق أهل مكة يوم الفتح حيث قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، لم يسوهم بأهل السابقة في الإسلام في نظر الصحابة، وإن كان الكل موعودا بالخير والحسنى كما قال الله تعالى: “لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى”.
وبهذا نعلم أن ما يلهج به بعض الفقهاء من عفو النبي صلى الله عليه وسلم عفوا مطلقا عن المعارضين له حتى يتمتع المعارضون للأمة والعرش بكل مزايا العهد الجديد لا محل له في هذا الموضوع، لأن عمر بن الخطاب لم يخولهم حق التسوية مع السابقين الأولين طول مدة خلافته، وفق الله ولاة أمورنا للنظر الصحيح في مصلحة الدولة والأمة.
محمد الطنجي/ دعوة الحق
العدد الأول السنة الثانية
ربيع الأول 1378/شتنبر 1958