قبل أيام أعلنت الإمارات عن اتفاقها المشؤوم بخصوص التطبيع مع كيان يهود وإقامة علاقات دبلوماسية، وما أن تم الإعلان وصدر البيان حتى قامت عاصفة من النكير على الإمارات من قبل الناس وكذلك مواقف رافضة من بعض الأنظمة يقابلها أنظمة تبارك وأخرى ساكتة.
أما بالنسبة للأنظمة فإن الناظر في الأمر يجد أن الجهات التي دار بينها الجدل كلها في أمر التطبيع سواء، لا فرق بين من قام بالاتفاق أو أيده وبين من رفضه و شجبه، فالأنظمة كلها ما بين مطبع ومشروع مطبع، وما بين مطبع بالسر ومطبع بالعلن، و أمثلهم طريقة من جعل تطبيعه “العلني” معلقا ريثما تتم تصفية قضية فلسطين تحت عنوان “نيل الفلسطينيين لحقوقهم”، فاختلافهم إنما هو في ضبط خطوات الطريق للوصول إلى التطبيع الكامل أما الوصول إليه فمتفق عليه.
وأما أبناء الأمة الإسلامية فإنهم يرفضون التطبيع قولا واحدا، و لكن حتى تكون النظرة واضحة والمنطلق للرفض صحيحا لا يقبل التغيير ولا يخضع للمساومة وجب أن نحدد الأساس الذي ينبغي أن نرفض التطبيع بناءً عليه، ولعل هذا الأمر هو الأهم على الإطلاق في رفض التطبيع وإفشاله والوقوف في وجه تصفية قضية فلسطين بل وصيانة الأمة من أن يخترقها “يهود” فيفسدوا فيها ويعلو فسادهم.
إن التطبيع بمفهومه الواضح ومعناه المباشر هو جعل العلاقة مع العدو ” طبيعية ” كالعلاقة مع غير العدو، واستبدال علاقة الحرب بعلاقة السلم، وهذا خلاف الوضع الأصلي الذي يحتم استنفار القوى واستمرار الجهاد حتى تسترد الحقوق ويدحر العدوان ويسحق المعتدي، فالتطبيع هو أمر “غير طبيعي” في العلاقة مع العدو، أما في حالة عدو لئيم غاصب ككيان يهود لا يزال يمارس إجرامه بحق الأرض وأهلها ويوسع في كل يوم رقعة العدوان على بلاد المسلمين، فإن التطبيع معه لا يقدم عليه إلا من كان ناقصا للمروءة فاقدا للشرف، بل إن التطبيع الذي يتم الكلام عنه بين “إسرائيل” وبين البلاد العربية يتجاوز في واقعه ليصل إلى الهيمنة وتعميق النفوذ واختراق المستويات التجارية والاقتصادية والأمنية وأخطر من ذلك محاولة تغيير المفاهيم والبيئة الثقافية لإكمال الاختراق وهذا لا يقدم عليه إلا خائن.
غير أنه ينبغي أن يعلم أن رفض التطبيع إن كان منطلقه “المصالح الوطنية”، فإن النظرة إلى “المصالح” يمكن تغييرها بل وتزويرها حتى يصبح التطبيع مصلحة للدول لا يمكن تفويتها، وأما “الوطنية” فإننا قد رأينا أنها لم تحم فلسطين من أن يتم التنازل عن أربعة أخماسها ولم تمنع من أن يكون “الوطنيون” هم أول المطبعين .
وأما إن كان رفض التطبيع صادرا عن موقف شرعي مبني على أساس من العقيدة ومفاهيمها، وإدراك لمعنى الأمة ووحدتها وواقع قضاياها وطبيعة عدوها، فإن هذا هو الحق، وهو الأساس الثابت الذي لا يتغير ولا يقبل المساومة لأن الحرام حرام والباطل باطل إلى يوم القيامة طالما بقيت أسبابه واستمر واقعه.
لقد وجد مصطلح التطبيع مكانه بين مصطلحات ومعان كالخيانة والتنازل والاستسلام والتخاذل، والصحيح هو أنه قد مزج بينها كلها، فواقعه أنه يجمع بين إقرار كيان يهود على احتلال أرض الإسراء، وهو تنازل عنها، وخذلان لأهلها وتقصير في تحريرها بل وأكثر من ذلك هو خطوة في تصفيتها، وإن أي خصلة مما سبق هي حرام وجريمة فكيف إذا اجتمعت تلك الخصال كلها؟! على أن فهم قضية التطبيع فهما شرعيا ينبني عليه لزوما فهم الأمور التالية:
أولا : إنه لا فرق بين التطبيع مع ما يسمى بـ”إسرائيل” قبل الضم أو بعده وقبل قيام “دويلة فلسطينية” أو بعده ما دام للكيان الباطل وجود ولو على شبر واحد، ولا فرق بين تطبيع السلطة والأردن و تركيا وبين تطبيع الإمارات ولا فرق بين تطبيع باتفاق ” سلام ” مثل مصر أو تطبيع فعلي دون اتفاق كقطر وعمان وموريتانيا.
ثانيا: إن إنكار التطبيع ونبذ المطبعين هو حكم شرعي يتعلق بأمة، فالحكم ليس مقسما حسب سايكس بيكو وحدود الضرار وخطوط الوهم، فالأحكام الشرعية شرعت للأمة ولا اعتبار للتجزئة القطرية الباطلة ، والمسلمون حربهم واحدة وسلمهم واحدة وعدوهم واحد، وليست هناك في التطبيع مصلحة لفئة دون أخرى، وقطر دون آخر، فالكيان المحتل في فلسطين هو عدو لأهل السودان والإمارات ومصر وتركيا والحجاز بوصفهم أمة، وعلى العكس من ذلك فإن النظرة الوطنية هي التي صنعت للمطبعين مبررات جعلت من مصلحة الوطن مقدمة على التضامن مع “الأشقاء الفلسطينيين”، فمصلحة السودان صارت مع “يهود” وأمن مصر بصلحهم وسلمهم، بل وصار منطق المطبعين في الخليج أن “إسرائيل” لم تعتد يوما على دول الخليج أو تعلن عليها حربا، وهكذا حتى وصل الحكام في ترويجهم إلى تصوير أن قضية فلسطين هي عبء لا بد من التخلص منه.
ثالثا: وعلى هذا الاعتبار- الشرعي- في تناول مسألة التطبيع سنلاحظ كذلك أن التطبيع ليس مصطلحا خاصا بالقضية الفلسطينية، وإنما هو واقع شرعي ينطبق على كل عدو للمسلمين أينما وجد، وبالتالي فإن كل من يشتبك مع المسلمين أو فئة منهم في حرب أو يمارس عليهم العدوان أو يسفك دماءهم أو يحتل أرضهم فإنه عدو للمسلمين كافة، وإقامة علاقة طبيعية معه من قبل بقية المسلمين إنما هي في واقعها “تطبيع” مع الأعداء، وفيه كل ما تحمله كلمة تطبيع من خذلان لمسلمين وتسليمهم لعدوهم وتقاعس عن نصرتهم.
بقي أن نقول إن استسلام هؤلاء الحكام أمام عدوهم وخذلانهم الطويل لقضية الأرض المباركة وكافة قضايا المسلمين ثم ختام كل ذلك بهذا التطبيع المهين لا يعني أبدا أن الهزيمة اكتملت أو أنه تأبيد للتاريخ، بل يعني فقط أن هؤلاء الحكام قد وصلوا إلى القاع، و أنهم استعجلوا بأنفسهم آيات الله وسننه في أمثالهم، وأما الأمة فهي صاعدة بأذن الله والباطل إلى زوال.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ)