جاء الإسلام ليقيم أركان المجتمع على الفضائل، وحُسن التخلق والصفات النبيلة التي منها الصفح، والعفو عن الإساءة والأذى، وترك الغضب والانتصار للنفس. ويلاقي الإنسان منا في حياته كثيرا مما يؤلمه، ويسمع كثيرا مما يؤذيه، ولو ترك كل واحد نفسه وشأنها لترد الإساءة بمثلها لعشنا في صراع دائم مع الناس وما استقام نظام المجتمع، وما صلحت العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المسلمين.
فالإنسان في بيته ومع أسرته قد يرى ما يغضبه، ومطلوب منه شرعا أن يكون واسع الصدر يسارع إلى الحلم قبل أن يسارع إلى الانتقام، وبذلك تظل أسرته متحابة متماسكة. ومَنْ أخطأ اليوم فقد يصلح خطأه في الغد ويندم على ما قدم من إساءة، والإنسان في عمله، سواء أكان موظفا في وظيفته أم صانعا في مصنعه أم تاجرا في متجره، والتلميذ في مدرسته أو في حجرة دراسته يخالط غيره من الناس ويتعامل مع زملائه ويخالط أقرانه، وقد يُستغضب ويرى ما يسوؤه، فعليه أن يضع بدل الإساءة؛ إحسانا ومكان الغضب عفوا وحلما، يقول تعالى: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” فصلت:34.
نجد في اللغة أن مادة سَمَحَ تشمل معاني الجود والعطاء والكرم والسخاء والتساهل: “سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء، وقيل: إنما يقال في السخاء سمح… وسمح لي فلان أي أعطاني، وسمح لي بذلك يسمح سماحة. وأسمح وسامح: وافقني على المطلوب… والمسامحة: المساهلة، وتسامحوا: تساهلوا…” اللسان:7/250، فهذه المعاني تصب كلها في مفهوم واحد وهو التيسير والبذل وكرم النفس بالعفو وتسهيل الأمور والتجاوز عن الزلات.
ومفهوم التسامح في إبداء حسن سلوك المؤمن مع الغير واستقامة معاملته مع الناس يعكس ويجسد دلالات المعنى اللغوي، فهو الصبر وكظم الغضب ثم العفو عن المسيء وإن توفرت وسائل الرد سواء صدرت الإساءة منه عن قصد أم عن غير قصد، مع احتساب هذا العمل خالصا لوجه الله تعالى يُبتغى به الأجر والثواب، وللتسامح ألفاظ قريبة منه، دالة على معناه، مرادفة لمفهومه، كالعفو والصفح والحلم.
ويبين لنا القرآن الكريم صفات المتقين الذين يسارعون بأعمالهم الصالحة إلى الظفر بمغفرة الله والفوز بجنته تعالى، يقول الله تعالى: “سَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” آل عمران: 133-134، فقد خصهم الله تعالى بأوصاف العفو وكظم الغيظ، وكلها أوصاف ترتبط في مجملها بمفهوم التسامح.
والعفو والتسامح سببان في وجوب مغفرة الله عز وجل، يقول الله تعالى: “وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” سورة النور: 22.
وقد أمرنا الله عز وجل أن نتمثل هذه الصفة، وأن يكون العفو والتسامح سلوك المؤمن الصالح، بأن نعفو وإن كنا نملك وسائل الرد، يقول الله تعالى: “وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ” الرعد: 22.
والمؤمن بتسامحه وعفوه عمن أخطأ في حقه إنما يبتغي بذلك الأجر والتواب من الله دون أن ينتظر جزاء ماديا أو دنيويا وإن كانت لديه القدرة والاستطاعة على رد السيئة بالسيئة، يقول الله تعالى: “وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” الشورى: 40.
ويبين لنا الله سبحانه وتعالى أن دفع السيئة بالحسنة بلا قسوة ولا غلظة، قد يجعل بينك وبين من كانت عداوته لك ظاهرة، صديقا قريبا، وليا حميما، يقول الله عز وجل: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” فصلت:34.
ويرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم بسنته الطاهرة ومواقفه العظيمة إلى كيفية تمثل هذا الصفة النبيلة والتخلق بها في سلوكاتنا ومعاملاتنا مع القريب والبعيد، عن عبد الله بن مسعود قال: “كأني أنظرُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَحكي نبيًّا من الأنبياءِ ضربَه قومُه، وهو يمسحُ الدمَ عن وجهِه ويقول (ربِّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمون)” مسلم: 1792.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم ألّف حول دعوته القلوب، وجعل أصحابه يفدونها بأرواحهم وبأعز ما يملكون بخُلقه الكريم، وحلمه، وعفوه، وكثيراً ما كان يواجه مواقف وسلوكات قد تستفز وتثير غضب الإنسان العادي غير أنه لم يجاوز حدود التكرم، ولم ينتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله، فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت:
“ما ضرب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيئًا قطُّ بيدِه، ولا امرأةً، ولا خادمًا، إلا أن يجاهدَ في سبيلِ اللهِ، وما نِيلَ منهُ شيٌء قطُّ، فينتقمُ من صاحبِه، إلا أن يُنتهك شيٌء من محارمِ اللهِ، فينتقمُ للهِ عزَّ وجلَّ” مسلم: 2328.
ويروي لنا أنس رضي الله عنه نموذجا آخر من حلم النبي صلى الله عليه وسلم وتسامحه في هذا الموقف قائلا: “كنتُ أمشي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعليهِ بردٌ نَجْرَانِيٌّ غليظُ الحاشيةِ، فَأَدْركَهُ أعرابيّ فَجَبَذَهُ بردائِهِ جَبْذَةً شديدةً، حتى نظرتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ رسولِ اللهِ صلى اللهِ عليهِ وسلمَ قدْ أثَّرَت بها حاشِيَةُ البُردِ من شدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثم قالَ: يا محمدُ مُرْ لي منْ مالِ اللهِ الذي عِنْدكَ، فالتَفَتَ إليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثمَّ ضَحِك، ثم أمَرَ لهُ بعطاء” البخاري:5809.
وشواهد هذا الخلق من السنة النبوية أكثر من أن تحصى، والمجال لا يسع عدها، فكتب السيرة زاخرة بالشمائل النبوية في هذا الباب وإنما حسبنا ما سبق من النماذج، أما العبرة من عرضها والمقصد من طرحها هو تمثلها في سلوكاتنا اليومية، واتخاذها طريقة في تصرفاتنا مع القريب والبعيد.
جعلنا الله وإياكم من المتسامحين فيما بيننا، من العافين عن الناس.
والحمد لله رب العالمين.