أن تختلف السلفية والصوفية شيء مفهوم باتفاق الجميع قديما وحديثا، لكن أن يدخل في الخلاف بينهما العلمانيون، ليستنكروا ما وصفوه بالهجمات الشرسة التي يشنها السلفيون على المتصوفة، أمر يحتاج إلى تأمل وتفكر.
ونأخذ مثالا عن هذا مقالا للـ”باحث” أحمد عصيد آثر فيه أن ينسلخ من “عقلانيته” وعلمانيته التي لطالما دفعته لمحاربة شعائر دينية واضحة كعيد الأضحى وصلاة تراويح وغيرها، وفضل أن يلعب دورا غاية في الإسفاف، وبعيدا عن كل نزاهة فكريَّة يقتضيها البحث العلمي والتحليل الفكري، معلنا في بداية انتصاره للصوفية، وحربه ضد السلفية أنه لا يؤمن بالروحانيات قائلا: “لست من أتباع الزوايا ولا أومن بالروحانيات، وأجد متعتي الفائقة في تفكيك الخطابات وأنماط السلوك والوعي بعقلانية قد تضجر البعض، ولكنها ضرورية لفهم ما يجري”.
لكن للأسف ستخونه عقلانيته ووعيه، وستنتصر عليهما انتهازيته وحقده، لأنه سيتجاهل كل المخالفات القانونية التي ترتكب في المواسم والأضرحة، والمهددة للصحة العامة والأمن العام، وسيتجاهل كل أنواع الاستغلال لسدنة الأضرحة لبؤس الفقراء وحاجتهم إلى الاستشفاء وبيعهم الوهم، وممارستهم للشعوذة والسحر ليأكلوا أموال الناس بالباطل، مع الضرر البالغ الذي يحدثه السحر على أجساد الناس وعقولهم، كل هذه الانحرافات والمخالفات القانونية والشرعية والأخلاقية، سيضرب عنها الباحث الذكر صفحا، ويفضل أن يسبح بقرائه في نوع من الخداع اقتضاه لديه الحقد الإيديولوجي، فغيب عقلانيته ووعيه.
كما سيظهر جليا أنه لا يدري شيئا عن تفكيك الخطابات وأنماط السلوك كما ادَّعاه، بل ما سيشهده القارئ هو قدرته على تفكيك عقده النفسية من خلال بثه لمشاعر الحقد والكراهية، ويسميها مقارنة بين السلفية والصوفية، محاولا أن يظهر وحشية السلفية وانغلاق السلفيين.
فاستهل كلامه مبديا أحاسيسه المرهفة الحانية على التصوف وأهله قائلا: “شعرت بعدم الطمأنينة، بل وبكثير من الامتعاض وأنا ألمس كيف يتهجم السلفيون والإخوانيون المغاربة على المتصوفين، مسفهين تجاربهم ساخرين من معتقداتهم الروحية وطقوسهم التعبدية”.
وقبل الخوض في مناقشة أوجه المقارنة بين الصوفية والسلفية نقر بداية أن الخلاف بينهما لا أحد ينكره، فهو خلاف قديم، عرف في الشرق والغرب على مدى قرون من الزمن، فمنذ نشأة التصوف وخلال مراحل تطوره، لا زال العلماء من مختلف الطوائف يردون على المتصوفة محدثاتهم في الدين، وما ابتدعوه من معتقدات وطقوس مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل يستنكر ذلك عليهم حتى فقهاء الصوفية كما هو مبثوث في كتبهم.
واشتد النكير من العلماء -بالخصوص- على غلاة رموز المتصوفة أمثال: الحلاج وابن عربي الحاتمي وابن الفارض الشاعر وابن سبعين، لعظم جنايتهم على عقيدة أهل السنة من خلال بثهم لعقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
لكن مقال أحمد عصيد ترك كل موضوعات الخلاف، وفضل أن يستمر في حملته على السلفيين، متدثرا بجلباب البحث، في حين عند التحقيق يتبين أن ما كتبه يندرج ضمن الحملة العلمانية العالمية على السلفية بكل تياراتها، والتي ترى فيها الحضارةُ الغربية تهديدا لمقوماتها وأسسها العلمانية، كما صرح بذلك زعماء الغرب ونخبهم من خلال تقارير مراكزهم التي تعنى بالدراسات الاستراتيجية.
ومادام الباحث عصيد يعد نفسه من سدنة العلمانية في المغرب، فلا غرو أن يكون من أعداء السلفية والسلفيين، وهذا واضح في مقاله الذي فضل فيه ألا يبحث في مضمون الخلاف بين الصوفية والسلفية، وآثر أن يحرك النعرة بينهما من خلال مقال هو أشبه بالتحريش منه إلى مقارنة علمية جدية بين تيارين موجودين في الساحة المغربية العامة.
وقد لخص مقارنته بينهما في أربع نقاط، نذكر منها الثلاثة الأولى، التي استهلها بقوله: “أول ما يميز الصوفية عن السلفية والإخوانية إنسانية الأولى وقساوة الأخرَيين، فالأولى لشدة احترامها للإنسان تضعه في مقام القرب من الله بدون وسائط السماسرة وتجار الإيمان، عبر الاتصال المباشر أو “الحلول” و”الاتحاد” أو “المواجد” و”الأحوال” وغير ذلك من المفاهيم العرفانية الروحية، أما السلفية والإخوانية فتصلان بالإنسان درجة من الاحتقار تجعل منه آلة مبرمجة لتطبيق وصفة يومية من التعاليم الفقهية، بحيث تلجم عقله وتطمس جدوة روحه وتحوله إلى كائن أبله لا يعرف من الألوان إلا الأسود والأبيض، بينما تزخر الطبيعة بالألوان الزاهية البهية والجميلة”.
هكذا، يبدو هذا الباحث موغلا في الكراهية للتعاليم الفقهية، التي تغيظه عندما تجعل من الإنسان عبدا لله ممتثلا لأوامره، مجتنبا لنواهيه، مظهرا لسمته، منضبطا بشعائر دينه، هذا الامتثال يرفضه عصيد لأنه في نظره يجعل من الإنسان آلة مبرمجة لتطبيق وصفة يومية، في حين يعلي من عقائد غلاة المتصوفة مثل “الاتحاد” و”الحلول” التي تمحو الفرق بين العبد والرب، وتسقط التكليف الشرعي عن العباد، فتبطل الشرائع جميعها.
وواضح أن الباحث لا يهمه زهد المتصوفة ولا رقصهم ولا ذكرهم، فما يهمه هو النتيجة النهائية التي تشترك فيها الصوفية مع العلمانية وهي إسقاط التكليف، وإبطال الشريعة، وإفراغ الإسلام من محتواه ووظيفته الأساسية، المتمثّلة في تعبيد الناس لرب العالمين، وفق ما بلغه رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
ثم يسترسل الباحث في عبثه الفكري وانتهازيته المكشوفة التي أسماها مقارنة، فيذكر ثانيَ ما يميز الصوفية عن السلفيين وهو: “انشغال الصوفية بمتعهم الروحية الشخصية التي لا يسعون من ورائها لا إلى سلطة ولا منصب ولا ترأس أو غلبة، واحتراق الإخوان والسلفيين وعجلتهم من أجل بلوغ مناصب الترأس والسلطة والغلبة لإحكام قبضتهم على الدولة وممارسة الوصاية على عقول الناس وإحكام الطوق على رقابهم”.
فـ”الباحث” في هذه الفقرة يحترق من شدة الغيظ، وتعتمل في صدره مشاعر الحقد والكراهية، فيصور السلفيين مثل محاربين يقاتلون من أجل السلطة والحصول على مناصب الترأس والغلبة، محاولا في خبث مكشوف أن يرسل رسالة للنظام مفادها أن السلفيين يريدون إحكام قبضتهم على الدولة، رافعا من شأن الصوفية لكونهم يشتغلون فقط بمتعهم الروحية الشخصية، مسقطين من اهتماماتهم ممارسة السلطة أو الحصول على المناصب، معتبرا أن هذه مزية تحسب لهم.
بطبع هي مزية لكن في أعين العلمانيين فقط، لأن في هكذا نحلة مشْغلة للناس ذوي الاتجاهات الدينية حتى لا يُنافسوا العلمانيين أو يتدافعوا معهم على كراسي السلطة.
فكم هو حداثي هذا “المناضل” الحقوقي، عندما يطلب من الناس أن يدَعو للعلمانيين السلطة والمناصب ويشتغلوا بالمتع الروحية؟؟
وكم هو محب هذا الحداثي للتنوع قابل للاختلاف عندما يرفض مشاركة السلفيين والإخوان في السلطة ويعتبره “ممارسة للوصاية على عقول الناس وإحكام الطوق على رقابهم”؟؟
هذا “الباحث” يمارس كل صنوف الاستئصال والحقد والكراهية، ثم يتبجح في كل المناسبات بالثقافة الكونية لحقوق الإنسان، وقيم الديمقراطية التي من أجلِّها عنده القبول بالاختلاف والتنوع، ونبذ مشاعر الحقد والكراهية.
مؤسف أن نرى هذا لكنه الواقع.
ثم يستمر في سرد أوجه مقارنته ليجعل ثالثها: “ما يميزهما عن بعضهما سعة أفق الصوفية وضيق السلفية والإخوانية، فللصوفية تأويلاتهم للنصوص الدينية تأخذهم إلى مشارف الروح، وتستكنه مواطن الحلم والجمال في الإنسان وفي الكون وما وراء الموجودات، بينما يُحول السلفيون والإخوان نصوص الدين إلى عبارات نمطية ماحقة وفقه مغلق، يفقر الحياة ويقتل ومضة الإبداع، وهم يفعلون هذا كله باسم السماء، دون أن يكون الربّ قد اتخذهم وكلاء أو محامين”.
حقيقة، على السلفيين أن يطلبوا السماح من هذا “الباحث” فقد ركَّبوا فيه عقدا نفسية، جعلته يُقارب الانفجار، فمن أنتم حتى تقولوا للناس أن الله افترض عليهم خمس صلوات وأمرهم بالحج والصيام والزكاة وحرم عليهم الربا والزنا والقمار وشرب الخمر وأكل الخنزير، فهل جعلكم الله وكلاء أو محامين عن دينه حتى تبلغوا هذا؟
لا تبلغوا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها تغضب عباد “ياكوش”، وتذكرهم بواجب الامتثال لله ورسوله، لماذا لا تتحلون بسعة الأفق، أمثال الصوفية، وتؤولوا نصوص الدين، لتتخلصوا من قيود الشريعة وتحلقوا بعيدا في مشارف الروح؟؟
كم أنتم مقرفون أيها السلفيون والإخوان؟؟
وحسب هذه المقارنة وحتى يرضى العلمانيون على الإخوانيين والسلفيين يجب أن يتحلى جميعهم بالتالي:
1- أن يقرؤوا نصوص الدين قراءة جديدة تخول لهم اكتشاف الجمال في الكون والإنسان، وتبعد الدين عن الفهم الحرفي الآلي.
2- ألا يتبرأوا من العلمانيين الحداثيين والديمقراطيين وأن يتعاملوا معهم بلطف وسماحة.
3- ألا يدعوا الناس إلى الرجوع إلى أحكام الشريعة وامتثال تعاليم الدين.
4- أن ينشغلوا بالعبادة عن السياسة.
وما دام الباحث اعتبر مقاله هذا على حد تعبيره: “مناسبة لتنبيه ذوي الطموح السياسي الجامح باسم الدين، إلى ضرورة عدم إسقاط الماضي على الحاضر، وضرورة الانتماء لقيم العصر”.
فإننا ننبه بدورنا ذوي الطموح الجامح في محاربة أسلمة المجتمع المغربي ورجوعه إلى التدين، إلى ضرورة الكف عن فرض النموذج العلماني الغربي بالقوة، والتوقف عن تهريبه من أوربا وأمريكا لاستنباته في المغرب؛ وقد أثبت الواقع أن فعلهم هذا لا يزيد إلا في انتشار التدين وفضح أعدائه، نظرا للوعي المتزايد لدى المغاربة بذاتهم ودينهم وتاريخهم.
فهلا أدرك العلمانيون هذه الحقيقة؟؟
فقد أصبحوا مثيرين للشفقة.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب