يجبُ أن ينظرَ أولاً إلى ما بنيتْ عليه هذه -القواعد- “الشبهات” لأنَّ الترَّتيبَ الطَّبيعيَّ للنَّظرِ يقتضي ذلك، ولنبدأ بالقاعدة الأولى وهي: “أنَّ السُّنَّةَ (أقوالُ النَّبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم، وأفعالُه، وتقريراتُه) ليستْ وحيًا، وإنَّما هي أمرٌ إنساني عادي لا حجّة دينيّة ولا دنيويّة فيه”.
بديهي -عند من شدا طرفًا من علوم الشَّريعةِ- أنَّ مُفسِّرَ النَّصِّ الشَّرعي واللَّفظ الشّرعي هو النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وتفسيره وبيانه موحًى به إليه، وإلَّا لم يكن هذا الدّين من عند الله، إذ كيف يمكن أن يعلم النَّبِيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بنظره البشري حقائقَ دينيّة لا تُفهم من جهة العقل، ولا من جهة اللّغة، ولا من جهة العادة. مثال ذلك: الصَّلاةُ، الزَّكاةُ، الصَّومُ، (…). ألفاظ أنواع المعاملات، ألفاظ المعتقدات، ألفاظ التَّعبُّدِ، ألفاظُ أحوال الآخرة (…).
فبديهي أنَّه هو من فسَّر هذا كلَّه وغيره من ألفاظ هذا الدِّينِ ونصوصِه، فهل يمكن أن يُفسِّرهُ بغير الوحي. فإن كان تفسيرُه عن غير الوحي وإنَّما كان عن شيءٍ آخرَ، فما هو هذا الشَّي الآخر؟
هل هو العقل؟ هل هو اللّغة؟ هل هو العادة؟ هل هو الإلهام؟
إنَّ إنكارَ كون السُّنَّةِ كلُّ ما يأتيه -عليه الصَّلاة والسَّلام- وحيًا؛ ويدرُه أمرٌ لا يقوله مسلمٌ له أدنى إلمام بمعرفة هذا الدِّينِ. بله من يدَّعي أنَّه مفكِّرٌ إسلاميٌّ، لأنَّ إنكارَ كون السُّنَّة وحيًا يفضي إلى أمرين:
أحدهما: أنَّ البيان النَّبويَّ ليس من الدّين وإنَّما هو بيان بشريٌّ، فيكون ما أُخذ من النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلم- من أمور الدِّينِ وشعائره ليستْ من الدِّينِ في شيء، وإنَّما شعائرٌ وأمورٌ نظنُّها من الدِّينِ عن جهلٍ. فالصَّلاةُ التي نصليها ليست من الدِّينِ وكذا كلُّ العبادات، وأمورُ العقائد المأخوذة منه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أيضًا ليستْ من الدِّينِ (…) فما هو هذا الدِّينُ إذن؟!
ثانيهما: أنَّ ما درج عليه النَّاسُ ومضوا عليه في تعبُّدهم على مرِّ العصور غيرُ لازم شرعًا العملُ به؛ لأنَّه رأي بشري اجتهادي، لا حَجْرَ في ردّه، والاجتهاد فيه على وجه آخر، فلكلٍّ الحقُّ في أن يختار عن نظر ما ظهر له أنَّه صوابٌ في ذلك، فيختار عبادات على أشكالٍ غير معهودة ويتعبَّدُ بها، ما دام هذا المنقول إلينا ليس دينًا، لأنَّ القرآنَ لم يُبيِّنْهُ، وهو أمر غير بعيد عن عقل هؤلاء القوم ووعيهم، ولكن هل يقول هذا ذو عقلٍ سليمٍ.
وإذا تقرَّرَ هذا علمتَ أنَّ كون السُّنَّة وحيًا لا ينكره إلَّا مكابر، أو معاند، أو جاحد القطعيَّاتِ. وما تُذُرِّعَ به من أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ينتظر الوحيَ -أحيانًا- وأحيانا يجتهدُ، فإن لم يصب جاءه الوحيُ بالتَّصحيحِ والتَّسديدِ فهو دليلٌ يقتضي عكس هذا الذي ذهبوا إليه، لأنَّ كونَه ينتظرُ الوحيَ -فيما لا حكم له به- وكونَه يُصحَّحُ اجتهاده من ربِّه إن لم يصبْ؛ فيه دليلٌ على أنَّه مُسدَّدٌ موجَّهٌ بالوحيِ على كلِّ حالٍ، فهو لا يُقرُّ على باطلٍ. وهذا من معاني أن سنَّتَه وحيٌ.
وحاصلُ القول: أنَّ كونَ السُّنَّةِ وحيًا -علما من الله تعالى- أمرٌ يدركُ بأدنى تأمُّلٍ ومعرفةٍ بالإسلام، فلا نطيل الكلام بتقريره. (موجبات سقوط القول العلماني الحداثي في قراءة النص الديني).