قلب المؤمن معلق بمحبة الله عز وجل، وروحه تواقة لنيل رضاه، وعقله مستحضر لعظمته متفكر في ملكوته، كل هذه المعاني والدلالات إنما هي مزيج منصهر في بوتقة الذكر باللسان و التفكر بالبصيرة والوجدان والتدبر بالعقل و الجنان، فالذكر يقتضي الدوام في الزمان و يستلزم الاستمرار في المكان، ويستوجب الاستحضار في كل الأحوال، هذه العناصر الثلاثة تتآلف فيما بينها ويكمل بعضها بعضا، وتتجسد في ذكر العبد لربه في كل وقت وحين، يقول الله تعالى: ” قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ” آل عمران: 41، وأينما حل وارتحل في سفره وحضره، فعن عائشة أم المؤمنين قالت: “كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللهَ على كلِّ أحيانِه” مسلم: 373، وفي قيامه وقعوده، في صحته وسقمه، في سره وعلانيته، في سعادته وشقائه، يقول الحق سبحانه: ” الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” آل عمران: 191، ويقول جل ذكره: “وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ” الأعراف: 205، ومنتهى جزاء هذا الذكر الدائم المستمر، مغفرة وأجر عظيم من الله تعالى، وهذا الأجر أسمى ما يتمناه العبد وأعلى ما يرجوه من ربه وهو الجنة، يقول الله عز وجل: “وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” الأحزاب: 35، “.. أي: هيأ لهم منه لذنوبهم مغفرة وأجرا عظيما وهو الجنة ..” ابن كثير: 6/421.
ويتضمن الذكر قراءة القرآن الذي هو كلام الله تعالى وتدبر معاني آياته وإقامة حدوده والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه والاتعاظ بمواعظه والاهتداء بهديه، فيقابل ذلك ذكر من الله تعالى للعبد وهو الشرف الأكبر والوسام الأعظم، يقول الله سبحانه: “اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ” العنكبوت: 45، “..عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: “وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ”، قَالَ : لَهَا وَجْهَانِ :ذِكْرُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَكْبَرُ مِنْ ذِكْرِكُمْ إِيَّاهُ ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا حُرِّمَ..” الطبري: 20/46، يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: “ألا أنبئكُم بخيرِ أعمالِكُم وأزْكاهَا عند مليكِكُم، وأرفعُها في درجاتكُم ، وخيرٌ من إعطاءِ الذهبِ والورقِ ، وأن تلقَوا عدوكُم ، فتضرِبوا أعناقهُم ، ويضربوا أعناقكُم؟ قالوا: وما ذاكَ يا رسولَ اللهِ؟ قال : ذكرُ اللهِ” البغوي، شرح السنة: 3/66، ثم يليه ثناء العبد على ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، يقول الله تعالى: “وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” الأعراف: 180.
ثم يليه تمجيد الله تعالى والابتهال إليه بالتسبيح والتهليل والتكبير والحمد مع استحضار عظمته والتدبر في ملكوته ونعمه، ومن فضائل الذكر، ذكر الله عز وجل للذاكرين والذاكرات له في من عنده وثناء ملائكته عليهم، يقول الرسول صلى الله عليه سلم: “لا يقعدُ قومٌ يذكرون اللهَ عز وجل إلا حفَّتْهم الملائكة، وغشيتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عنده” مسلم: 2700، وهذا من قبيل رد الإحسان بالإحسان ومن كون الجزاء من صنف العمل، وهذا شرف عظيم أن يخصك الله عز وجل بالذكر من بين ملايين البشر الغافلين عن هذا الحظ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة”، ورواه البخاري و مسلم، فأي شرف أعظم من هذا الشرف، ويؤكد ذلك قول الله تعالى: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون} البقرة: 152، فقد أعقب الله عز وجل الشكر بالذكر في هذه الآية لأن الشكر صنف من صنوف الذكر بل هو تجسيد له وإقرار، لكونه اعترافا بفضل المنعم وامتنانا بنعمه وثناء على عطاياه.
وفي ذكر الله تعالى تثبيت للقلوب، وطمأنة للنفوس، وسكينة للأرواح {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد: 28، وفيه تقوية للعزائم، وشحذ للهمم، وثبات على الحق، “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ” الأنفال: 45، وفي ذكر الله تعالى زيادة للإيمان، وجلب للخشوع، ووَجلٌ للقلوب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الأنفال: 2.
فيا باحثا عن سعادة القلب وبهجة الروح وسكينة النفس، اغتنم وقتك بالذكر في حلك وترحالك، في حركاتك وسكناتك، واحرص على المواظبة على أوراد تلاوة القرآن والأذكار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، تجد حلاوة في قلبك وطعما لحياتك، وتيسيرا لأمورك وأرزاقا من حيث لا تحتسب.
جعلنا الله وإياكم وجميع المسلمين والمسلمات من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات.
والحمد لله رب العالمين.