اتفق المفكرون والكتاب على أهمية تحرير المصطلحات وتحديد مساحاتها المضمونية وفضاءاتها الدلالية، فالمصطلح هو حامل المعنى وحاميه، والمُعاني في تحقيق المعاني يحتاج إلى معرفة فلسفة الاصطلاح وقوانينه الوضعية في التعابير العربية المحكومة بالسياقات والمقاصد.
فلكل علم مصطلحاته الخاصة، يميزها تاريخ ووضع مميزان، يجعلانه مفتاح الفن ومركب السياحة في عالمه.
والمصطلحات الشرعية من المصطلحات الأكثر دقة، لتميز المصدر والمقصد والمضمون والسياق، وأكثر منه دقة المصطلح القرآني الرباني، الذي يحتاج مستعمله قراءة وكتابة إلى عمق في النظر ودقة ورقة في الاستعمال، وإحساس بالمسؤولية عند كتبه وقراءته. ومصطلح (دين) مصطلح قوي ثابت في نفسه.. محرك لغيره.. يحمل شحنة ثقافية كبيرة، ويتميز بزنة حضارية ثقيلة، وبالنظر إلى أصله وأس معناه يكتشف الناظر أنه أمام مركب متكامل، ومحتوى عميق. وتظهر خطورة المصطلح في الاستعمالات الفكرية والسياسية، مثل (فصل الدين عن السياسة) و(رجال الدين) و(الخطاب الديني) و(الأحزاب الدينية)…
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة وهو كتاب يعنى بذكر أصل معاني جذور الكلمات العربية:
(دين) الدال والياء والنون أصل واحد إليه يرجع فروعه كلها. وهو جنس من الانقياد والذل. فالدين: الطاعة.
وقال الزبيدي في تاج العروس: الدين: (الطاعة)، وهو أصل المعنى… وذكر قوله تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) أي طاعة.
وعليه؛ فكلمة الدين تعني الطاعة، وما يشتق منها على جهة المعنى هو الانقياد والقبول والتذلل والخضوع، وعلى هذا فـ(رجال الدين) معناه رجال الانقياد لأوامر الله.. ومعنى (فصل الدين عن السياسة) فصل طاعة الله عن السياسة، ومعنى (الأحزاب الدينية) الأحزاب القائمة على الخضوع لما أنزل الله على الرسول، ومعنى (الخطاب الديني) الخطاب المبني على طاعة الله ودعوة الناس إلى الخضوع لله وشرعه!!
قد يكون هذا صادما لقليل ممن يقرأ مقالي، ربما لأنه لم ينتبه يوما للبعد الاصطلاحي للكلمة، وربما بسبب قوة التشويش المنبعثة من أقلام بعض المشاغبين… أو لغلبة العرف الاصطلاحي… وإذ الأمر قد اتضح، فليرجع كل إلى موضعه على نقاط الحراسة على حدود الشريعة.
وأزيد على هذا أن من ألطف التعاريف النابضة بالحياة ما نقله الزبيدي في التاج عن ابن الكمال فإنه قال: (الدين، وضع إلهي يدعو أصحاب العقول، إلى قبول ما هو عن الرسول) فجمع الدين والعقل والرسول في نسق جميل.
لقد سلك أحمد عصيد في استعمال كلمة (الدين) مسلك بني جلدته في فساد المنزع وسوء النية، أو ربما عمق الجهل والهشاشة العلمية.
وسآخذ مثالا للاستعمال الدارج لبني علمان للمصطلح على لسان قلم أحمد عصيد، وربما أزرار لوحة مفاتيحه، فإنه تحدث عن الخلاف القائم بين أنصار الدين وأنصار الإنسان، فالأولون يجعلون الدين فوق الإنسان، والآخرون يجعلون الإنسان مركز كل شيء.. فيعلو ولا يعلا عليه!
لقد عكف أحمد عصيد فلسفيا على جعل الأولوية للإنسان قيمة عليا في [مقابل الفكر الذكوري الذي يعتبر النص الديني والدين أعلى وأسمى] ثم يتساءل: [ما قيمة الدين إذا لم يخدم كرامة الإنسان؟]. ثم يقول: [..لا يمكن لأي شيء أن يأخذ الصدارة على الإنسان، في تاريخ الفكر الإسلامي ثبتت أن الأولوية ليست للإنسان بل هي للدين بدليل الضرورات الخمس] كما في مداخلة له موضوع المرأة والعلمانية.
وعلى ضوء ما بينته من معنى (الدين) فقد اتضحت حقيقة مقاصد كلام أحمد عصيد، فإن كان هو وقبيلته الفكرية يعرفون هذا المعنى فالأمر إذن قائم على المدافعة بين طاعة الله ومخالفته، بين قبول شرعه ورده، بين الانقياد لأوامره والإعراض عنها… فالعلماء رجال طاعة الله، والأحزاب الدينية أحزاب رضيت نظريا بطاعة الله منهجا لها، والعلمانية إقامة مؤسسات الدولة على غير طاعة الله…
وإن كانوا لا يعرفون.. فهم مسرفون.
وعودا على كلام أحمد عصيد….
من الأسمى: الإنسان أو انقياده لخالقه؟
من الأفضل: السيارة أو انقيادها لصانعها وسائقها؟
ما قيمة الإنسان إذا لم ينقد لخالقه مطيعا وخاضعا ومتذللا؟
ما قيمة السيارة التي لا تستجيب لما صنعت له، ولم يسهل انقيادها لسائقها؟
هكذا هي المسألة عند المسلمين، يقيمون ويُقَوِّمون نظرهم بقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فأثبتوا الخلق ومقصده.. ونفوا انفراد الإنسان بالوجود العاقل، ولست أدري موقف أحمد عصيد من هذا؟
وبعد هذا كله.. سيبدو سؤال أحمد عصيد: (ما قيمة الدين إذا لم يخدم كرامة الإنسان)؟ سخيفا مضحكا..، فمعناه: (ما قيمة طاعة الإنسان لله إذا لم يخدم كرامته)؟ وهل علمنا من طاعة الله تعالى غير ذلك؟
ولذلك كانت كرامة الإنسان عندنا في جعله الدين أسمى وأعلا. وقد ثبت هذا في تاريخ الفكر الإسلامي… فلماذا يسلم الناس إذن؟
أما استدلاله على جعل المسلمين الدين مقدما على الإنسان بما يذكره العلماء في الضروريات الخمس؛ إحدى أيقونات علم المقاصد الشرعية؛ فأمر لا يقدر عليه أحمد عصيد، ولا يحسن تلاوته، فذاك بحر له ملاحوه.. وحسبه أن يحسن الاستحمام في سطل من المشاغبات الفكرية الباردة.