الإسلام أولا ثم التحرير والأنسنة ثانيا عبد المغيث موحد

لست أدري كيف أننا أمة تملك الحق بينما تظل حقيقته بيننا ضائعة هائمة، وهي الكنز الموجود الذي وأده أهله في لحد اليأس، وهي الدواء المهمل بين أطياف المرضى والمعلولين حتى إنه ليخيل للكثير أن سيادة حقنا تأباه طبيعة الحياة، وتنفر من أهله ضحايا الأوهام الغالبة والخوارم الطامسة، صرعى الأفكار الرجراجة التي استحالت بها التقاليد الخرافية إلى عقائد صلبة متينة، يحرصها التعصب، ويساندها التحزب، وتحركها المصالح الإقليمية صوب الواجهة باسم الغيرة والحمية على دين الإسلام.
وقد يغيب منهج الدين القويم إذا عم الجهل المركب، واندرست أساليب التلقي الصحيحة للمعرفة الشرعية، فكانت الغلبة للهوى والسيطرة للمآرب الخاصة، ليس في صفوف العوام ولا معشر المقلدين ولا خصوم الدين من الملاحدة والعلمانيين، وإنما في صفوف المنتسبين إلى العلم والمعرفة، فحق لأهل محلتنا أن يصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاء ما يكلُمُهم.
وكيف لنا ألا ننسرب مع هذا التأبين وقد وجد من أهل الإسلام وخاصته من يردد مع القوم أن الديمقراطية هي النتاج الفكري الذي له اليوم كامل الصلاحية للإدارة والأهلية للقيادة دون غيره من الملل، كانت سماوية ونعني بها حصرا الإسلام، أو وضعية ونعني بها دساتير المدنية الحديثة؟
بالأمس القريب نشرت جريدة المساء مقالا بعنوان “التحرير قبل الأسلمة” للمفكر الإسلامي فهمي هويدي، ملخصه أن فقه الأولويات ومستلزمات الذوق ومطالب الأدب تمنع منع النقل والعقل قبل النصر والتحرير، والكلام في الحجاب والمطالبة بأسلمة مظاهر الحياة داخل المجتمعات الإسلامية المستلبة وعلى رأسها غزة المحاصرة، بل وكما قرر باللفظ والمعنى قائلا: “وأذهب أبعد زاعما بأن التحرير مقدم على الأسلمة والأنسنة، بمعنى أن يشعر كل إنسان بكرامته مقدمة على الاثنين” انتهى كلامه.
والواقع أن المرء قد يجد مسوغات لهذا الطرح إذا تبناه أبناء المدرسة العلمانية أو ساقه أهل التغريب، لكن أن ينسب هذا السعي الحائف وأن يخرج من مشكاة الفكر الإسلامي، فهذا لا مسوغ له البتة لا في النقل ولا العقل الذي لم تخالط باحاته شبهات الزيف، وشهوات الحيف، وكيف لمثل هذا المروق أن تتبناه المدرسة الإسلامية؟
وهي التي رام إرساءها، وتوطن تنزيلها، ليطارد جاهليته الأولى في جفوة وغلظة ومجادلة ومجالدة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فهذا فاروق الأمة يقر قائلا: “كنا على شر وجاهلية فجئتنا بالإسلام فأعزنا الله به، فإذا رمنا العزة في غيره أذلنا الله”، وهل التحرير إلا وجه من أوجه العزة المنشودة مع الدين دفعا وطلبا؟
وهل الأسلمة تتعارض وتحقيق المطالب العليا للإنسان عبر الحياة الطيبة المنشودة؟
ثم هل نستطيع أن نتكلم عن التحرير دون سابق توطين الأسلمة، وصبغ وجه وجودنا بمائها الطاهر العطر، وقد قال ربنا: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}.
وهل يا ترى نستطيع أن نعود إلى تراث سلفنا الصالح لننهل من معينه أسباب النصر ومظاهر التمكين؛ في وقت تلتقي فيه دعوات الحداثيين والعلمانيين مع صرخات جيل التنوير من حملة لواء تغيير الدين وعصرنته؟
هذا الجيل الذي ما فتئ يتبرأ من حمولة الأدب الشرعي للكتب الصفراء، في إشارة نابزة لمصنفات السلف، وكونها حبلى بالتفسيق والتكفير والرمي بالضلالة، ومن تم حسب الزعم والافتراء تكريس الفرقة بين صفوف الأمة، وإدخالها في أتون الفتنة، أتون من تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، في حين تبدو حاجة الأمة اليوم إلى ضرورة لمِّ شمل حواياها، إذ لا يعقل وهي في صراع مع العوادي الخارجية أن تتمسك بعملية إيثار مفاهيم الغربة، واصطلاحات الفرقة الناجية وزمن الرويبضة، زمن تضييع الأمانة وتخوين حملتها الأبرار.
وهلمّ جرا من الأحاديث النبوية التي استشرف بها الصادق المصدوق أحوال زمن الخير المدخون، اصطلاحات يرى فيها الكثير أنها تعطل مشروع الوحدة، وتشرذم المجتمع الإسلامي، وتقبر المجهود المتسارع في مسعى النصر، بل وتساهم في ترهيل حبل الأخوة في الوطن والقبيلة والنعرات العشائرية التي عادت إلى الواجهة كقضايا كبرى وانشغالات مسكونة بتحقيق كينونتها السليبة..
فهل يا ترى نستطيع بهذه الرؤية تحقيق التربية دون التعريج على فعل التصفية؟
وهل يتأتى النصر ونلامس عتبة التمكين، والواقع خليطه مستحلب غير متجانس، تقدم البعض منه بين يدي الله ورسوله على سبق نهي وتحذير منه سبحانه إذ قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؟
وهل والحال على ما نرى من حيدة ومروق تعد مجالدة المكابر والمعاند منا -بسوط الصواب وصارم الحق- ضربا من ضروب هتك حرمة الأخوة، والميل بميزان السوية العقدية، ميل الأهواء الموثرة لغمط الناس وبطر الحق؟
لا شك أن المتأمل لدعوة الإسلام يؤبد الإجابة بالنفي، سيما والإساءة بلسان الحق هي عين الإحسان، ولعل من أساليب المجادلة بالتي هي أحسن، تغليظ القول أحيانا وتشديد بيانه، إذا ترجح لكل صاحب حق الرهبة على بضاعته من التلف، والرغبة في رد عدوان الأيدي التي امتد بطشها مدا وبلغ جورها أشدا.
وانظر إلى هدي سيد المجادلين بالتي هي أحسن، وكيف أنه خاشن الآكل بشماله، وأغلظ القول في حق المتختم بالذهب، وصاح في ابن الصياد “إخسأ عدو الله”، ثم تأمل شهادة القرآن وتسميته لأهل الباطل أنهم “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ”، وأنهم “لاَّ يَفْقَهُونَ”، وأنهم “يَعْمَهُونَ”، وأنهم “فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ”، لتقف بروية على مفهوم الأخوة في الدين، وعلى حقيقة النصر الذي باتت تحجبه أكمة الولاء الحائف والرفق الزائف، والأنسنة التي صار لها السبق والصدارة، وأصبح الدعاة إليها في حل وخيرة من قضاء الله ورسوله، حتى انقلبت الآية فأصبح نافخ الكير خير جليس وحامل المسك تجد منه الحداثة الدينية ريحا خبيثة، وعلى هذا النحو تشاركت العلة مع المعلول بين المقيس والمقيس عليه، ليصنف أهل الإسلام على شواكل إثنية اعتدال أو تطرف، ولا أعراف بينهما، ومفاهيم غلو جديدة، ومعاني مجافاة بديعة، ضاع معها الحق الذي لا طالب له، وبضياعه علق مشروع النصر والأنسنة إلى لواحق زمنية سينية المجاهيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *