الذين سيوضع لهم الدستور..

تفضل حضرة صاحب الجلالة المعظم، فاستدعى نخبة من رجال العلم والفقه والسياسة، وأناط بهم مهمة وضع دستور البلاد الذي يدعم كيان الدولة، وينظم شؤون الحكومة، ويحدد حقوق الشعب الأساسية، والمهمة عظيمة جدا، فإن الفكر العام قد شغل بها غاية الشغل، ولم تفتأ الصحافة تتناولها بالكتابة والتعليق منذ نشر نبأ هذا الاستدعاء، وقد كان في الكتاب والمعلقين من عرف قدره فتناول الموضوع بما يلقي بعض الضوء على المبادئ والأصول التي يجب أن ينبني عليها الدستور، ومنهم من ركب رأسه فصار يملي أفكاره الخاصة، بل إراداته على الناس، كأنما الدستور له وحده دون سائر المتساكنين في هذا الوطن.

والذي يجب أن يعرفه كل واحد هو أن المغرب قطر يسكنه إثنا عشر مليونا من الناس، كلهم يدينون بالإسلام ويقدسون العروبة ويتمسكون بمغربيتهم أعظم تمسك، وهذا باستثناء أقلية صغيرة من اليهود، كانت قبل هجرة الكثير منهم إلى فلسطين المغتصبة تعد بمائتي ألف نسمة، وبعض ذوي الأفكار المضادة لهذه المبادئ وهم مهما بالغنا في تعدادهم تصديقا لدعواهم فلن يتجاوزوا بضع مئات.
أما إسلام المغاربة وإيمانهم القوي، فلا نحتاج إلى إقامة الأدلة العديدة عليه من الماضي، وتاريخهم في خدمة هذا الدين الحنيف معروف، وإنما ننظر إلى واقعهم الحالي فنجد أنهم من أعظم شعوب الإسلام تمسكا به، وغيرة عليه، ودفاعا عنه، وقياما بشعائره، وخضوعا لشرائعه، ويكفي المرء أن يدخل إلى المساجد العديدة التي لا تخلو منها قرية ولا بلدة، ليرى أفواج المصلين في الأوقات الخمسة تكاد تغص بهم هذه المساجد، ويرى الذين تفوتهم الصلاة في هذه الأوقات لمانع من شغل وغيره يتعاقبون على المسجد، ويؤدون ما عليهم من فرائض فيما بين ذلك، أما صلاة يوم الجمعة فإن المساجد لا تكفي بالفعل لاستيعاب المصلين لها مهما اتسعت وكثرت، ولذلك فإن الجماهير الغفيرة من المؤمنين تصليها في الساحات والرحاب المتصلة بالمسجد على مرأى ومسمع من المارة، ولا تتركها بحال لأنها تعلم أن الجماعة فيها واجبة.. وبدافع هذا الشعور الديني القوي يبني المغاربة كل عام في مختلف المدن والقرى عشرات المساجد للأوقاف، ويقومون بتكاليف تسيير هذه المساجد مدة تقصر أو تطول حتى تتسلمها منهم الأوقاف.
ومثل الصلاة وهي العمود الفقاري للدين، الزكاة والصيام والحج، فإن المغاربة يؤدون هذه الواجبات كلها ولا يتهاونون بها مطلقا، أما الزكاة وهي أثقلها على النفس لتعلقها بالمال
من لا يخرجها من المغاربة أقلية ضئيلة، نعم الكثير منها يذهب في غير محله، ولو نظم أمرها وتكلف بها من يقبضها من الناس ويصرفها في مصارفها الحقيقية لما امتنع من أدائها أحد، وأما الصيام فلا يخفى ما للمغاربة به من عظيم الاحتفال، واعتبارهم شهره عيدا من الأعياد، وأنه لم يكن أحد منهم يخل به حتى طغت علينا هذه الحرية الموبوءة التي نرجو أن يكون الدستور وقاية لنا من عقابيلها الفتاكة، وأما الحج فبالرغم من أتعابه ونفقاته الباهظة، حتى قال بعض العلماء أنه ساقط عن أهل المغرب، فإن حجاج المغاربة كل عام يعدون بالآلاف، ولولا العراقيل التي توضع في سبيله، واستغلال شركات النقل لضعفة الحجاج، لكان عددهم أضعافا مضاعفة عما بلغ إليه لحد الآن.
هذا بالنسبة إلى أركان الدين العظمى، وأما السنن والفضائل وأدب السلوك العام، فإن المغاربة ما برحوا يزنون جميع أعمالهم بميزان الشرع الشريف، ويحرصون أشد الحرص على عدم مخالفته في قول أو فعل، ومن ثم نرى هذه الثورة التي تضطرم بها جوانحهم على ما شاع في العهد الجديد من الفسق والفجور، ومعاقرة الخمور، والاستهانة بأمور الدين في كثير من المظاهر والأعمال، لما أن القوانين العصرية لا تتعرض لذلك بنفي ولا إثبات، والشرع الذي يعاقب على ذلك قد عطل، أو لم يبق بيد أهله نفوذ، وعلى هذا فإن المجتمع المغربي لا يزال في عوائده وتقاليده إسلاميا صميما، إلا عند بعض المنحرفين الذين أشرنا إليهم فيما قبل.
على أن أعظم حجة على تدين المغاربة، وتمسكهم بالعقيدة الإسلامية، هو ما نراه ونسمعه من تملق بعض الساسة للعاطفة الدينية عند الشعب المغربي وتظاهرهم باحترام شعائر الإسلام، وإن كانوا في باطنهم يستخفون بها رغبة في تأييد الجماهير الشعبية لهم، وكسب أكثر ما يمكن من الأنصار.
وأما تعلق المغاربة بالعروبة وانتماؤهم إلى القومية العربية، فلا أدل عليه من هذه الصيحات المتوالية من جميع الطبقات، بوجوب تعريب التعليم وتعريب الإدارة على العموم، ومن تأييد فطرة المغرب العربي الذي هو الجناح الأيسر للجامعة العربية، ومن الحماس المنقطع النظير الذي قابل به الشعب المغربي الانضمام إلى هذه المؤسسة العتيدة بعد ما تشوف إليه منذ فجر الاستقلال، ومما يبديه في كل قضية فلسطين الشهيدة، واستعداده للتضحية بالنفس والنفيس في سبيل تحريرها وإنقاذها من الاستعمار الصهيوني الغاشم، إلى غير ذلك مما هو خبر معلوم.
وأما تشبثهم بمغربيتهم وما لها من خصائص ومقومات، فيظهر في قوة عاطفتهم الوطنية، ومحافظتهم على عوائدهم الاجتماعية، وفي نظام بيوتهم ومعيشتهم وما إلى ذلك.
نعم هذه هي المثل العليا التي من أجلها يعيش كل مغربي، وعلى هداها يسير، وفي سبيلها يعمل، ثم هي من حيث حرصه عليها وتعلقه بها وتقديسه لها على هذا الترتيب الذي ذكرت به، فالمغربية تلي العربية، وإذا تعارضتا فرضا وتقديرا فهو عربي فكرا وشعورا، وأنف الوطنية الإقليمية الضيقة راغم، تمام كما لو تعارضت العربية –وهي لا تتعارض- مع الإسلام، فهو ميتعد للتضحية بها والتنكر لها احتفاظا بعقيدته، وتمسكا بدينه الذي لا يبغي به بديلا، فالذي يريد أن يسوس المغرب ويحظى بثقة المغاربة، عليه أن يرعى هذه المبادئ الثلاثة في كل عمل يعمله، وكل سياسة ينتهجها، وإلا فإنه سيبوء بالفشل الذريع والخدلان الشنيع.
إن أول انطلاقة تحررية جدية باجماع الآراء، هي التي انبعثت من خطاب طنجة التاريخي سنة 1947 وهي التي أعلن فيها جلالة الملك(2) أن اتجاه المغرب الطبيعي نحو الشرق الإسلامي والبلاد العربية، فالذين يقولون اليوم إن المغرب من الغرب أو إنه واسطة بين الشرق والغرب، إنما يحاولون فصم العرى المتينة التي بينه وبين إخوانه المسلمين والعرب تمهيدا للانزلاق به نحو التبعية الغربية، والانسلاخ من قوميته العربية الإسلامية، ولو كان من الشعوب العربية من يصح له أن يدعي هذه الدعوى لكانت مصر التي سبقتنا للاتصال بالحضارة الغربية بقرن ونصف، والتي تعد اليوم من علمائها وخبرائها وفنييها عشرات المآت إن نقل الآلاف، على أن خديويّها الذي لم يفهم نفسية شعبه، وقال إن بلادي قطعة من أوربا قضى بقية حياته منفيا في أوربا…فكيف نحن ببضع (ليسانسات) في الحقوق الفرنسية من غير عربية، أو ببعض أفكار (شيوعية) يخلب بها السياسيون الفاشلون عقول البسطاء من الناس، نكون واسطة بين الشرق والغرب، والشرق قد اتصل قبلنا ولم ينتظر وساطتنا، والغرب يرى تنكرنا لتراثنا الفكري والحضاري الضخم فتأهب لالتهامنا حين لا يبقى لنا رصيد روحي ولا خلقي يثير حفاظنا ويبعث نخوتنا؟
إننا إذن مقبلون على معركة حاسمة بالنسبة لمستقبل المغرب، فإما أن يكون عملنا عملا بناء هادفا يرتكز على أسس متينة من مقدساتنا وواقعنا الاجتماعي، وحياتنا البيتية المبنية على النظافة والطهارة وعدم الإثارة وحينئذ فإن المغرب سيسير في طريقه نحو النمو والتقدم والازدهار بخطى ثابتة وسريعة ويتعاون جميع العناصر والطبقات من المواطنين والمواطنات، وإما أن ننحرف ونميل ونترك الطريق السوي والنهج القويم فنضحي بالاثني عشر مليونا من أجل خاطر الأقلية التي لا تكون حتى اثنين في المائة فقط، من أجل أن يقال عنا أننا تقدميون متحررون، كما قالت جريدة إسبانيا الطنجية يوم استقبلت أول فوج من المسيحيين الذين اكتسبوا الجنسية المغربية في حين أن المسلمين الذين يولدون فوق التراب الإسباني لا يسمح لهم القانون إلى برعوية منقوصة1…وفي هذه الحال فإن دستور المغرب سيكون نسخة لا غير من دساتير الدول اللادينية، ولاسيما القدوة العظمى فرنسا (المطروبول)، وفي هذه الحال سنبقى وحدنا وسنسخر الشعب بأجمعه، وإن كنا سنكسب تصفيق الخوارج والمتملقين.
إن المغاربة الذين نحن في خدمتهم عرب مسلمون، دستورهم الخالد هو القرآن، وقانونهم العام هو الشرع الإسلامي، فعلى هذا الأساس يجب أن يوضع دستور الدولة التي تحكمهم، ومن هذين المنبعين الثريين يجب أن يستمد ذلك الدستور مبادئه وأصوله، وهذا إن لم يكن إيمانا بالقرآن ولا بالشرع الإسلامي فليكن إيمانا بالديمقراطية التي هي حكم الشعب من غير تحريف لها ولا تزييف، وبموجب هذه الديمقراطية التي يتبجح بها الجميع، لا يكون الحكم إلا للأكثرية، وأي أكثرية هذه؟ إنها الأكثرية الساحقة على حد التعبير المقتبس من اللغات الديمقراطية..
وعلى كل حال، فنحن لا نطمع في ديمقراطية أكثر من ديمقراطية الانجليز الذي يقسم رئيس دولتهم بمقتضى دستورهم على حماية الكنيسة الإنجيلية، والمذهب البروتستانتي، من غير ملاحظة لما يضمه الشعب البريطاني من ملايين الكاثوليك وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى. وفي نص الدستور على ضمان حقوق الأقليات مرضاة للجميع وفي نصه على المساواة القانونية بين جميع السكان نفي لكل حيف يحتمل وقوعه على الأقليات.. وما عدا ذلك فإنما هو استخذاء من الأكثرية أو أنانية من الأقلية، وكلا الوصفين لا يليقان بالمواطن الحر، والتوفيق من الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-1 وقانون لانديجينا في الجزائر هو من قبيل هذه الرعَوِية عند فرنسا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *