عندما وقف ناصر الزفزافيلاغيا معترضا مستدركا بطفح تسخط على خطيب مسجد حيّه، وهو بمنطقه يجتر فصول خطبة الجمعة التي تم حبك سطور شقيها الأول والثاني بعيدا عن هموم منطقة الريف ومنها طبعا مدينة الحسيمة، حيث المركز ينعم بالأمن في سربه معافى في بدنه وضامنالقوت سنواته، ذلك المركز الذي مارس ويمارس وصايته وينفذ توصياته على الأطراف النائية عن امتيازاته والقريبة من يد بطشه وتهارش سلطته، تلك المناطق التي تئن حسب الدعوى المحلية تحت طائلة التهميش والتطفيف الذي يطبع مسيرة وسيرة التعامل مع قضايا الشمال المغربي وعلى رأسها منطقة الريف،كان علينا أن نقف، ولكن ليس مع تفاصيل لغو وتشويش ناصر الزفزافي الذي تجاوز مس الحصى أو القول للصاحب تنبيها أنصت، فهذا ومثله يعد ضمن المعلوم من الدين بالضرورة مخالفة للأدب اللائق وكذا حيدة ومروقا من الشرط المعهود لشهود مشهد جماعة الجمعة.
كان علينا أن نقف إذن لنتأمل ما صاحب وقوف الرجل واعتراضه الفج، إذ كانت السمة الغالبة والمسيطرة على الوضع هي انضمام مريدي الجمعة واصطفافهم إلى جانب صاحبهم، بل والترديد وراءه للشعارات المؤيدة لفعله بل النافخة في سخونة رماد ما جنح إليه من مقدمات فتنة، والعاضة على منطق تصرفه بنواجذ الرضا والاقتداء والمتابعة.
ولعل الأمر بدا وكأنه سمفونية معدة سلفا، حيث لم نجد من هؤلاء المريدين من اعتصم بحبل الحياد، أو انتصر للإمام الخطيب، فرحم شيبته ووقر وصفه ونيابته في اعتلاء منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام،مع أن قصد المجيء تحكمه وتتحكم في خطواته نية تلبية نداء السعي إلى الصلاة من يوم الجمعة لا أغراض أخرى، والإجماع حاصل على أنهم مأتمون به تابعون لإحرامه وتحلله بتسليمة واحدة، يعلم هو قبل غيره أنه لو زاد عليها لعد باغيا متطرفا تكفيريا…
إنها وقفة نتجشم عناء طولها، في ظل تطور الأحداث وصرف ورفع مجرياتها صرفا حائفا ورفعا زائفا، خصوصا بعد خبر ما آل إليه الضمير الديني من تهافت حس وتراجع تأثير، وهو الضميرالذيأفادت مدرسة التاريخ بالتواتر حكاية وواقع ما لعبه من دور ريادي، اتسم بالحكمة والموضوعية في معالجة قضايا كبرى، بل وتصدىمساهما في وأد الكثير من الفتن التي عرفتها المنعطفات التاريخية للسيرورة الزمنية للأمة، فنجد أن التحكيم الديني وصوته قد كانت لهما كلمة الفصل والحسم في قضايا ربما استحيى المرء أن يعقد لها عبر إحالة وتحيين معاصر مقارنة مع ما تحكيه الوقائع والأحداث ومحركات الأفكار في يومنا هذا، إذ المعارك يومها دارت على رحى وأرضية صلبة تفوقت فيها العقيدة وآصرتها على كل العوامل الإنسانية الأخرى، ولنتذكر في هذا الخصوص مناظرة عبد الله بن عباس لجمهرة الخوارج الحروريين، وأنها كانت رهان سفارة تميزت بمنطق غلبة البرهان وتحكيم الدليل والفزع إلى تدبير الأزمة بآلية القدوة العلمية الصالحة والتي غنمت من العدد وكم الخروج نصفه.
ودعونا نسأل في جرأة زائدة، مستدلين بهذا السؤال على ما حكمنا عليه من تهافت وتراجع وتداع للضمير الديني وصوته المجلجل في صمت وسكون وتقية: ماذا لو أن الدولة ممثلة في وزير أوقافها فكرت في سفارةعلمية تجالس أهل الحسيمة وتقنعهم بعواقب الانسراب مع محركات الاحتجاج الداخلية والخارجية، وتتماهى مع مدبرات خرجاته المترادفة؟ ثم هل كانت تملك من مخزونها البشري ونقصد بذلك معشر العلماء ما تستطيع أن تراهن عليه في غاية ومقصود رد الأمور إلى نصابها تحت قرينة ما يمكن أن يحصل لمعشر المحتجين ومن يقودهم ويتولى صفوفهم الأولى من استحياء وتوقير وكف وانحناء لرواد هذه السفارة العلمية؟
لا شك أنه رهان خاسر واستباق مفلس، قد أشر على خسرانه وإفلاسه عربون ما حصل ابتداء لخطيب الجمعة هناك في مدينة الحسيمة، وهو ينهى ويحذر من الفتنة، ويصفإجمالاتهاومستشرفاتها بلسان من هم بعيدون عن دخانها، إذ كانت النتيجة المتوقعة والراجحة الوقوع أن لغا الكل، وصلى هذا الكلفي بيوته الجمعة ظهرا، بله صار المسجد خط انطلاق لخرجة واحتجاج زاحف حائف، يعيد على بدء متكرر رفع شعارات المناهضة والاستنكار والتسخطالمستوعب للنسيج السياسي الحاكم.
وربما بل أكيد أن من عملوا على اختيار موضوع الخطبة في هذا الظرف الحرج، ثم توحيد كلفة طرحها بين يدي مريدي صلاة الجمعة من طنجة إلى الكويرة، لم يرتبوا الأوراق، ولم يختبروا إقدامهم الماكربمنخلة الحكمة وميزان التدبر.
والدليل على ما ذهبنا إليه كان هو ما حصل من موقف جارح أسلفنا الإشارة إليه بإجمال مخل، إذ كيف لمنبر اعتاد في إكراه ومألوف استمراء أن ينأى بنفسه عن هموم وحاجات وآهات الناس سنين عددا، أن يعود فجأة وبغير مقدمات إلى واجهة الأحداث ليمارس نصحه، ويغلّب منطقه، ويفرض رؤيته الغائبة والمنزوعة من سياق التأثير منذ عقود، ذلك الغياب والنزع الذي وقع بفعل تغوّل سلطة وتمكن السياسي العلماني من رقبة العالم والفقيه والخطيب والواعظ الديني، بتأشير ومأذونية مرور من طرف الوزارة الوصية، وتواطئ سافر من إعلام بئيس عمل منذ زمن بعيد على تحوير مفهوم القدوة، وطمر سيرة حياة الصالحين والاستبشار بمصيبة موتهم في غربة وإغراب مقصود…
إننا وبقدر ما نعرف للعلماء الربانيين قدرهم، وإقرارنا بضرورة تواجدهم في مقدمة السير، وبقدرتهم على ضبط الأمور، وكذا وسع جهدهم في سلك مسلك المساعي الحميدة بكل نجاح وفاعلية وتميز، بل استطاعتهم في حسم النقاش وتضمين أطراف النزاع مسؤولية الحق والواجب والخروج من دائرة معادلتها بأقل الخسائر، بقدر ما نرى ونعتقد أن هذا كائن بقرائنه مشروط بضوابطه، مرهون بقيمه،ولا شك أن من خبر حال العلماء وبلا أمر الخطباء في بلدنا وسائر بلدان المسلمين، علم أن المراهنة على هؤلاء أمر محسوم النتائج راجح الفشل مستشرف الخسران، وليس هذا الفشل ولا ذلك الخسران يرجع إلى طبيعة معلومهم وشرف ميراثهم، فإن الدين كامل ونعمة هذا الميراث المبارك الشريف تامة ترياقها مجرب…
وعلى ضوء ما سلف دعونا نعود لنطرح السؤال لكن في مستوى أدنى يبحث في جزئية العمل الدعوي في دائرة التكليف الإسلامي وآلياته الشرعية في الدفع والمغالبة، ونعني به ذلك السؤال الذي يحيل على تفكيك الأسباب بل سبر غور مكامن الضعف منها، وهي الأسباب التي جعلت خطبة الجمعة مع توالي أسابيع التمرد، وتكرار اعتلاء الخطباء إلى منابر الإرث النبويقد فشلت في رد الأمور إلى نصابها بل كان صوتها كل مرة يذهب جفاء؟؟؟
ولسنا ملزمين بعد طرح هذا السؤال بمحاولة الإجابة عنه، بقدر ما نحتاج إلى التنبيه على أن من فكر في إقحام حالة الخطاب الديني وهالة طقس الجمعة الجماعي والإلزامي، كان عليه أن يجرب أولئك الذين ما فتئت سياسة تدبير الشأن العام تقذف بهم إلى الواجهة، وتنفخ في أرصدتهم المالية، بل وتكد وتجد وتسعى لكي تكون لهم السطوة والنجومية.
نعم كان على من فكر في توحيد الخطبة واختيار مضمونها بدقة مدخونة، أن يراهن على القدوات الحداثية من الفنانين والفنانات والراقصين والراقصات والطباخين والطباخات والمغنين والمغنيات، وبتقريب للمعنى وتجلية لغموض إجمالاته، كان على من قدر ودبر لوضع خطبة الجمعة في المحك، أن يرسل طائفة من أسماء النجوم والنجمات في سفارة توسط حميد وهي الأسماء التي لطالما وقف السيد الوزير بل وتحمل وعثاء سفر معصيته ليدافع عن المهرجانات الحاضنة لتلك النجومية بدعوى أن الأمر خلافي بين العلماء…نعوذ بالله من الخذلان وسوء المنقلب وكآبة المنظر.