عنوان السلسلة حوارات فكرية قناديل لإنارة الطريق .. د. البشير عصام

 

المقدمة الشعارية للسلسلة

الذل والضعف وفساد العمل .. كل ذلك راجع إلى خلل الأفكار.

وطريق إصلاحها في الحوار ..

وهو طريق طويل تحيط به ظلمات، تحتاج إلى قناديل تزيل غبشها، وتقود إلى الضياء الماثل في آخر النفق.

الحلقة 3:

زاد الطريق -2-

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

ذكرتُ في الحلقة السابقة، القاعدة الأولى من قواعد زاد الطريق، الذي لا بد من اصطحابه خلال هذه الرحلة الحوارية.

وبعد قاعدة التسليم للنص الشرعي، نأتي إلى القاعدة الثانية، وهي: لا حكم إلا بدليل!

وهذه قاعدة عقلية مهمة، دل عليها العقل السليم، والنقل الصحيح.

فأما من جهة العقل، فإن من البدهيات التي تسلم بها العقول، ولا تنازع فيها، أن الحكم لا يمكن قبوله إلا بعد عملية استدلالية صحيحة، فلا يقتنص التصديق –أي: نسبة الشيء إلى آخر إثباتا أو نفيا- إلا ببرهان. ولذلك يكثر في خطاب عامة الناس –فضلا عن خاصتهم– مطالبة الآخر بالبرهان على كلامه. وإنما يقع الخلاف بين الناس في نوع الدليل ومقدار صحته ومدى مناسبته للحكم المستدَلّ عليه، لا في أصل وجوب الرجوع إلى الدليل لإثبات الحكم.

وأما من جهة النقل، فقد تكاثرت نصوص الوحي الدالة على هذه القاعدة، خاصة في المحاورات القرآنية المؤسِّسة لأصول التوحيد. فالقرآن الكريم يطالب المخالفين في مواضع كثيرة بالدليل والبرهان، كما في قوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)؛ وفي قوله سبحانه: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين). وينكر القرآن الكريم على الذي يشرك بالله دون دليل معتبر يستند إليه: (ومن يَدعُ مع الله إلها آخر لا برهان له به، فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون).

وليس المقصود بالدليل، ما اجتمعت فيه الشروط والصفات التي وضعها علماء المنطق الأرسطي، وإنما المطلوب ما أوصل النظر الصحيح فيه إلى الحكم مطلقا، سواء أكان على رسم المناطقة واصطلاحهم أم لا.

ففي المجال الشرعي، نقصد بالدليل ما استقر في علم أصول الفقه، من الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس بشرطه، مع ما سوى ذلك من الأدلة المختلف فيها بين الأصوليين، كالمصلحة والاستحسان وقول الصحابي وغيرها. والاستدلالُ بنصوص الكتاب والسنة لا بد أن يراعي مجموع القواعد الأصولية المسطرة في مباحث الأقوال، من منطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومبين، ونحو ذلك.

ومن أراد أن يسلك طريقا آخر للاستدلال الفقهي، فلا بد أن يبني معمارا أصوليا متكاملا، على أنقاض علم أصول الفقه القائم في التراث الإسلامي منذ قرون، وعليه أن يشيد هذا المعمار الجديد على أسس علمية سليمة، وقواعد مطردة، ويستدل لكل قاعدة جديدة يؤصلها بالأدلة المعتبرة؛ لا أن يكتفي بنشر اختياراته الفقهية بمحض الهوى والتشهّي، فإذا جوبِهَ بمخالفته للقواعد الأصولية لجأ إلى دعوى تجديد أصول الفقه، دون أن يكون تصوره لهذا التجديد واضحا ولا مكتملا!

وفي المجالات الفكرية والسياسية، فالمقصود بالدليل ما يقبل العقل السليم دلالته على الحكم، فيشمل ذلك طرقا كثيرة، منها: أنواع القياس من أولوي وقياس شبه وقياس علة؛ والجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات؛ والسبر والتقسيم؛ والاستقراء؛ ودلالة الأثر على المؤثر؛ وغير ذلك.

وقد رأيت من خلال تجربتي الخاصة في النقاشات المجتمعية، أن كثيرا من المتحدثين لا يلتزمون بأصول الاستدلال العقلي ولا الشرعي، بل أغلب ما يُتداول في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي من الأحكام لا يستند إلى براهين معتبرة، بل قد لا يستند حتى إلى شبهات أو أدلة فاسدة، بل إنما يعتمد على الكلام العاطفي والإنشائي، الذي يؤثر على الأحاسيس والمشاعر، أو يخاطب الغرائز.

وهذا الكلام العاطفي يصبح بعد تكراره في منابرَ مختلفة، بصيغ متباينة، فكرةً جاهزة مستقرة في أذهان عامة الناس، يعسُر اجتثاثها، ويصعب اقتلاعها مع أنها لم تعتمد في أصل انبثاقها على دليل معتبر!

ويكثر في مثل هذه الحوارات الفكرية المجتمعية، ألوان من الكلام غير المستند إلى برهان صحيح، من تفريق بين المتفقات وجمع بين المختلفات، ومن اعتماد على الذوق والهوى والاختيارات الشخصية، ومن اعتراض على المثبِت الخاص بنفي عام، ومن سوء إعمال للقياس إثباتا ونفيا، كأن يلحق القائسُ زيدا بعمرو في جزئية معينة لاشتراكهما في العلة، فيعترض المعترض عليه بوجود الفرق بينهما في جزئيات أخرى! إلى غير ذلك من ألوان الأحكام المرسلة، التي لا برهان عليها.

ولنا في الحلقة القادمة – إن شاء الله – وقفة مع قاعدة أخرى من قواعد “زاد الطريق”!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *