أبرزها اثنان:
أولهما: تفسير “لا إلاه إلا الله” بمعاني الربوبية.
والثاني: إثبات بعض الصفات ونفي الأخرى بحجة التنزيه ونفي التشبيه.
وفي بيان الأول ومناقشته يقول الإمام ابن تيمية:
“التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله؛ لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات؛ قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة:163) وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون:117) وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف:45) وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (الصافات:35-36) وهذا في القرآن كثير.
وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد. فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد بأن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة: ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له. و”الإله” هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة. وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع.
فإذا فسر المفسر “الإله” بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد – كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه – لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم. فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء. وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106) قالت طائفة من السلف “تسألهم: من خلق السماوات والأرض ؟ فيقولون: الله. وهم مع هذا يعبدون غيره”اهـ.
وفي مناقشة الخطأ الثاني يقول الإمام أبو محمد الجويني:
“كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات ومسألة الفوقية ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف فيها أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل؛ فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات، ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ويؤول النزول بنزول الأمر ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك، ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت، يجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم..
وممن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم، ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها، فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره.
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف؛ العالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمين، ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه من الفوقية واليدين وغيرها ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرتبة ويد النعمة والقدرة وغير ذلك وأجد الله عز وجل يقول: {الرحمن على العرش استوى} {خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} {يخافون ربهم من فوقهم} {إليه يصعد الكلم الطيب}.
..ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للجارية: “أين الله؟” فقالت: في السماء، فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه بل أقرها وقال: “أعتقها فإنها مؤمنة”([1]).
قال: “إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبه التأويل وعمارة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، والحق واضح في ذلك والصدور تنشرح له؛ فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره.
..والذي شرح الله صدري له في حال هؤلاء الشيوخ الذين أوّلوا الاستواء بالاستيلاء والنزول بنزول الأمر واليدين بالنعمتين والقدرتين هو علمي بأنهم ما فهموا في صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين؛ فما فهموا عن الله استواء يليق به ولا نزولا يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه، فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وعطلوا ما وصف الله تعالى نفسه به، ونذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى:
لا ريب أنا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله، ونحن قطعا لا نعقل من الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراضا تقوم بجوارحنا، فكما أنهم يقولون حياته ليست بعرض وعلمه كذلك وبصره كذلك هي صفات كما تليق بنا؛ فكذلك نقول نحن: حياته معلومة وليست مكيفة وعلمه معلوم وليس مكيفا وكذلك سمعه وبصره معلومان ليس جميع ذلك أعراضا بل هو كما يليق به.
ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله.
.. وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجوا إلى التأويل والتحريف، فإن فهموا في هذه الصفات ذلك فيلزمهم أن يفهموا في الصفات السبع صفات المخلوقين من الأعراض فما يلزمونا في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم به في هذه الصفات من العرضية وما ينزهوا ربهم به في الصفات السبع وينفون عنه عوارض الجسم فيها كذلك نحن نعمل في تلك الصفات التي ينسبونا فيها إلى التشبيه سواء بسواء، ومن أنصف عرف ما قلنا واعتقده وقبل نصيحتنا بإثبات جميع صفاته هذه وتلك، ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف، وهذا مراد الله تعالى منا في ذلك لأن هذه الصفات وتلك جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وحرفنا هذه وأولناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وفي هذا بلاغ وكفاية إن شاء الله تعالى”اهـ([2]).
—————————————————–
([1]) رواه مسلم. وقارن أيها القارئ بين إثبات الإمام الجويني لهذا الحديث، وتحريف عبد الله الغماري للفظه ومعناه في تعليقه على المجلد السابع من التمهيد (ص.135)، وقوله فيه: “أما كون الله في السماء، فكانت عقيدة العرب في الجاهلية”اهـ!!!.