للمساجد دور عظيم في الإسلام؛ إنها بيوتُ الله تعالى، وهي أشرف البقاع على وجه الأرض؛ حيث يُذكَر فيها اسم الله جل وعلا ليلَ نهارَ وصباح مساء، ويحضرها رجال لا يغفُلون عن طاعته سبحانه وتعالى في غدواتهم ورَوْحاتهم، في شُغلهم وفراغهم، في حِلِّهم وتَرحالهم؛ قال سبحانه: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور:36-37].
ولا يخفى على كل مسلم ومسلمة ما للمسجد من دور في حياة المؤمن؛ فهو المدرسة الأولى التي تخرَّج فيها الصحابة -رضي الله عنهم- فكان لهم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها؛ ذلك أن المسجد أدى دوره وقام برسالته التي جاء من أجلها؛ فلم يكن في عهود الإسلام الأولى دار صلاة فحسب، بل كان مع ذلك دار اجتماع لكل المسلمين، ومركزاً لإرسال السرايا والجيوش، ومنه ينطلق الدعاة إلى الله يجوبون الأرض يعلِّمون الناس الخير.
فلقد كان للمسجد دور في خدمة المجتمع من عهد نبينا محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- إلى عهد قريب، ولكن بعد توسع نطاق المعمورة كان لزاماً إقامة إدارات ترعى شؤون المجتمع وما يحتاجه الناس، غير أنه بقي للمسجد دور فعال أيضاً، وخاصة أن الناس بحاجة ويتلهفون لذلك.
وفي هذا المقام أود التذكير برسالة المسجد، وإحياء هذه الرسالة التي كادت أن تموت، ولا سيما أننا في وقت يحارب فيه المسلم بوسائل مختلفة، وأساليب متعددة.
وهذه بعض الوسائل استخلصناها من هدي الإسلام وقواعده العامة، نستطيع من خلالها معاً أن نفعّل دور المسجد ونحيي شيئاً من رسالته؛ فإن غياب هذا الدور، واندراس تلك الرسالة، من أسباب تعرض المسلم للانجراف وراء التيارات المنحرفة المفسدة المشبوهة، التي تستهدف تضليل الناشئة بالدرجة الأولى، وإبعادهم عن دينهم وإغراقهم في أوحال الرذيلة مستخدمة في ذلك شتى الوسائل من دور سينما ووسائل إعلام وشبكات اتصال. وفي هذه المقالة الموجزة نقدّم بعض المقترحات لتفعيل دور المسجد في عصرنا الحالي، وذلك في النقاط الآتية:
1- تفعيل دور الحلقات القرآنية:
فلو بدأ المسجد بفتح حلقات للقرآن، ولو كانت حلقة واحدة أو حلقتين مثلاً، وذلك في البداية لئلا نبدأ بداية كبيرة فيكون هناك خلل، فالبداية يسيرة حتى يتطور العمل ولو كان مبدئياً حلقة أو حلقتين للابتدائي، وواحدة أو اثنتان للمتوسط لكان ذلك حسناً؛ فإن الشباب في هذا السن كالعجينة باليد يحتاجون إلى من يربيهم التربية الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة خاصة مع انشغال الآباء عن أولادهم، أو تشاغلهم بالمغريات التي أحاطت بالجميع إلا من رحم ربك.
2- عقد الدروس الفقهية والدورات العلمية:
وذلك بواسطة العلماء وطلاب العلم في شتى صنوف العلوم الشرعية من عقيدة وفقه وحديث وتفسير وغيرها، وذلك بين الفينة والأخرى، لا سيما في مواسم العُطَل والإجازات. ومما يدل على أن المسجد كان مهد مثل هذه الدروس العلمية قصة أبي هريرة -رضي الله عنه- حين مرَّ بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: «يا أهل السوق! ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذوا نصيبكم منه! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ فقالوا: يا أبا هريرة! قد أتينا المسجد فدخلنا فيه فلم نرَ فيه شيئاً يُقْسَم.
فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى! رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام.
فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم-» أخرجه الطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني (1/83) وغيره، وحسنه الألباني كما في صحيح الترغيب (71).
ومن أولى أولويات الدروس العلمية: حلقات تحفيظ القرآن الكريم للناشئة؛ فما زالت مساجد المسلمين عامرة منذ القديم بمثل تلك الحلقات التي يتخرج فيها حفظة كتاب الله، وهناك بعض المساجد تجعل حلقات التحفيظ في مدرسة أو دار خاصة بالتحفيظ مستقلة عن المسجد، مستقلة عنه حسب الظروف.
3- إلقاء المحاضرات والدروس والندوات:
والمقصود بذلك المحاضرات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم، وهذه تختلف عما سبق من حيث إنها لا تركز على شريحة معينة من المجتمع كطلبة العلم، بل تتوجه إلى عموم الناس: المتعلم وغير المتعلم، من النساء والرجال، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» (أخرجه البخاري في صحيحه).
وإن من أهم المواضيع العامة التي يحتاجها الناس كلهم: بيان أركان الدين الخمسة، وأعظمها الصلاة، وحث الناس على أدائها في جماعة، خصوصاً فريضة الفجر؛ فما بنيت المساجد إلا للصلاة وذِكْر الله.
ومن المواضيع المناسبة في هذا الموطن: ما يتعلق بالأسرة والبيت وتربية النشء ومسائل النكاح والطلاق والمشاكل الاجتماعية والأسرية التي تعاني منها كثير من بيوت المسلمين.
4- إلقاء بعض الكلمات والمواعظ الموجزة:
يتم إلقاؤها بين فينة وأخرى يستفيد منها جميع روّاد المسجد خاصة أهل الحي، على أن يُرَاعى في ذلك كله الأوقات المناسبة حتى لا يملّ الناس، وهكذا كان هديه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» فتح الباري (1/214) .
هذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس موعظة، وهؤلاء هم الصحابة أحب العالمين للموعظة. وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يذكّر الناس كل خميس اتباعاً لهدي النبي الكريم.
والمهم في هذا الأمر عدم إملال الناس وتنفيرهم، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال؛ فقد يكون التذكير يوماً بعد يوم، أو يوماً بعد يومين، وقد يكون أسبوعياً، والضابط في ذلك كله هو الحاجة مع وجود النشاط. الترمذي (1242).
5- إنكار المخالفات الشرعية نصحاً لعامة المسلمين:
وذلك عند وقوع أحد منهم في مخالفة داخل المسجد، وقد جاءت السنَّة بالنهي عن أمور تتعلق بالمساجد كالبيع والشراء فيها، ونشدان الضالة، ورفع الأصوات والجدال؛ ونحو ذلك. ونضرب مثالاً واحداً لإحدى المخالفات التي أعتقد أنها منتشرة بيننا اليوم بكثرة وقلّ أن يخلو منها مسجد، تلك هي المرور بين يدي المصلي، والمرء يعجب أشد العجب من تهاون الناس في هذا الأمر؛ فالمار لا يبالي كثيراً بأخيه المصلي، بل لا يبالي بإخوانه المصلين، فتجده يقطع صفوف المصلين واحداً تلو الآخر وكأنه لم يقع في محرم بَلْهَ كبيرة من كبائر الذنوب.
ومن جانب آخر تجد المصلين أنفسهم يتساهلون في عدم دفع هذا المار بين أيديهم، وكأن الإثم يقع على المار فحسب، والأشد عجباً هو تخلي جمهرة المسلمين خصوصاً أئمة المساجد عن القيام بواجبهم في النصح والإرشاد لهذا الأمر المتكرر يومياً، بل أصبح الأمر عادياً حتى إن البعض يمر بين يدي المصلين ذهاباً وإياباً دون أي مبالاة.
6- إماتة البدع وإحياء السنن:
يجب التعاون على إماتة البدع والخرافات من المسجد إن وُجدت، ثم إحياء السنن التي أُميتت وما أكثرها! والبدع هي من المخالفات التي ينبغي القيام بالنصيحة عند حدوثها، ولكني أفردتُ البدع عن سائر المخالفات لفداحة الآثار المترتبة على ارتكابها مقارنة بالمخالفات التي تم الإشارة إلى بعضها؛ فالبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها كما قال سفيان الثوري -رحمه الله-، ولست بحاجة لأن أعدّد البدع، بل الشركيات المتفشية في مساجد المسلمين ودور عبادتهم.
فمن أخطر البدع وهذا على سبيل المثال لا الحصر التي لا تزال للأسف موجودة في مساجد المسلمين دفن الأموات لا سيما من يُعتقَد فيه الصلاح والخير إما في قبلة المسجد، وهذا أشنعها، أو في طرف منه، أو في صحنه، أو حتى في فنائه، وكذلك العكس أي إقامة المسجد وبنائه على قبر، ولم يكن هذا تعامل السلف الصالح مع القبور إطلاقاً، بل إن الذي أحدث المشاهد، وعظّم القبور في ملة الإسلام هم المبتدعة.
ومما يدل على خطورة هذا الأمر أن التحذير من الوقوع فيه كانت آخر وصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». البخاري (418) ومسلم (827).
وبعد إماتة البدع ينبغي العمل على إحياء السنن الخاصة بالمساجد، وهي كثيرة، وإنما تُرِكَت لتعلق الناس بالبدع، وينبغي التدرج في إحياء السنن في المسجد وتقديم الأهم فالمهم، حتى لا ينفر الناس من السنَّة أو ينكروها؛ فالسنن المتعلقة بصفة الصلاة وتسوية الصفوف مثلاً تُقدّم على سنن الدخول إلى المسجد والخروج منه، وهذا الأمر يحتاج إلى فقه المقاصد وفقه المصالح والمفاسد، ومن لم يكن ذا مَكِنَة فلا يتجشم عناء التغيير، فقد يُفْسِد أكثر مما يُصْلِح.