هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاسيا حينها.. مع أنه ألينُ الخلقِ وأمهلُهم سجيةً حتى كان الرحمة عينها “رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ”، “بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”.
وهل كان خير الورى جاحدا حينها.. مع أن حياة الاعتراف بالجميل.. وذكر الأيادي البيضاء كادت تملأ حياته، وتجعل الحاضرين معه في غبطة عظيمة من أولئك الذين غبروا.. ولكنهم في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم استقروا.. وخلفوا فيها أبلغ الأثر وأنبله.. أليس هو الذي كان يتهلل لنسيم هالة أخت خديجة.. ويبتهل إلى الله أن تكون الطارق الذي يتأسن عند الحجرات.. فيسجلها رقيقة في “تاريخ المعروف”.. اللهم هالة، أليس هو الذي خلَّى سبيل “بنت حاتم الطائي” كما في “قصة سباياطي”.. وليس لها إلا محل أبيها من النَّجَدات..
نعم، لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا ذاك وحاشاه أن يكون من أولاك.. ولكنه لما قال كلمته في مجاويد الجاهلية كابن جدعان حين سألته أمُّنا الصديقة السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: “هل يقبل الله منه ما كان عمل من أعمال؟ (فإنه كان يصل الرحم، ويطعم المسكين، ويقري الضيف، ويفك العاني، ويفي بالذمة، ويعتق الرقاب، وفي داره كان حلف المطيبين.. وكان.. وكان.. وكان) طرف فقال عليه الصلاة والسلام: “إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين”.
إن تلك البهيمة التي تحيا لتأكل وتنام.. أدّت عملا ولكنها بقيت بهيمة..
وإن تلك الآلة العظيمة التي قام المصنع على خدماتها.. بقيت آلة من حديد ولم يجعلها عملُها أُمَّ زمانها.
وكذلك ذلك العقل الإلكتروني الواسع العطاء الرهيب في استعلامه وكمِّ معلوماته.. بقي رُغم جليل خدماته صندوق معادن لم يتأهل لمكانة واضِعِه..
فإذا نظرنا إلى “جوهر الكون” وهو هذا الإنسان الذي أكرمه الله على الخلائق لمحنا فيه هذا المعنى.. وأنه رغم كثرة الأعمال وروعة الإنجازات.. فإن الإسلام يرفعه عن أن يكون آلة أو بهيمة.. وقد أرادت منه هذه الشريعة الغراء أن يكون في عمله أنبلَ من مردود مصنوعاته، وأنه إذا عمل العمل غذّى به -قبل عقله وجسده- روحَه التي هي أسمى عناصر تكوينه، هذه الروح التي هي سر خلقه وآية من آيات الله في الأنفس، فهذه الروح التي هي من أمر ربي “وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً”.. سَرَت إلى بدنك من الملأ الأعلى طاهرة.. ثم ظلت في بدنك راجية الطهر.. خائفة من العهر والهجر..
فلو عَمِلْت أي عَمَلٍ مهما غلا لتنعش عقلك لم تكن أعمل من حاسوب..
ولو عملت أي عمل مهما علا لترفع جسدك لم تكن أنشط من آلة وبهيمة..
سر التفاوت بين هذا وذاك هو تغذية الروح التي ليست عند الآلة ولا عند البهيمة، فهذه الروح أعطش ما تكون لنفحات موطنها حوالي سِدرة المنتهى والفردوس الأعلى، ولذلك لما عاش العمال لأبدانهم لم يرثوا إلا الأمراض والأدواء، ولما عاش الفلاسفة لعقولهم لم يرثوا إلا الحيرة والشقاء وكانوا كالمجانين في مسرح العقلاء..
ولكن “حياة الروح” هي التي جعلت السلف الصالح يشهدون على أنفسهم بأنهم في سعادة لو علمها الملوك -أرباب العقول والأبدان والسياسة والأعمال- لجَالدونا عليها بالسيوف.. ويُطعَن الواحد منهم في ساحة الوغى ويقول: “فزت ورب الكعبة”، ويتمشى إلى حياض الحِمام التي ترهبها القلوب.. وهو يجد الأنس بالمنية، ويشم عبير روضات الجنان، وهذه الروح السامية هي الفارق بين من “يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً” ومَن “يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً” وبين مَن “جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاّ” وبين من تعزز بأن “كَانَ ذَا مَال وبَنِين” فصدته عن الكتاب المبين، ومَن يقول: “أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً”، حتى تعالوا بالأكساب والأحساب فقالوا: “نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ”.
فالإسلام أهمل كل هؤلاء وأراد من أعمالنا أن تنبني على أسس تغذي الروح وتعلي مقامات الإحسان فيها، فوازع الدين، وحرارة الإيمان، وإرادة وجه الله.. هي التي تجعل العمل مستمرا لا يتوقف مهما طال زمانه، ويجعل العمل حلوا على النفس مهما تعددت مشاقه وموانعه، والتزود بتقوى الأسباب هو النافع المثمر عند رب الأرباب، “قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ”، “إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ”، فابن جدعان وأمثاله عملوا ولكن ليشملهم سجل التاريخ، وتذكرهم قوافي الشعراء.
إني وإن لم ينل مالي مدى خُلُقي *** وَهَّابُ ما ملكت كَفَّاي من مالي
لا أحبس المال إلا حيث أتلفهُ *** ولا يغيرني حال على حال
ولذلك لا يتردد الواحد منهم في أن يغزو من كان بالأمس ضيفه، ولا يأبى أعقلهم في أن يكرم الحجيج والجم الغفير.. ثم هو يئد وليدة تئن كالعصفور بين يديه..
فأخبرت الشريعة أن هذه الأعمال يُجْزَون بها طعمة في الدنيا.. ولكنها في موازين الآخرة تَخِفُّ بصاحبها وتخلفه الموعد “هَبَاء مَّنثُورَا”، وقد تكون أحيانا بوادر استقامة، (تحذف) لأن الروح تأنس بأعمال الخير، فيصير خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.. والفقه المطلوب هنا هو السمو بصفات الخير فيهم إلى أن تُنجح لوازع الدين، وتُنجز بدافع الإيمان بالله الرحيم الرحمن.. جل وعلا، يدلُّ عليه ما رواه مسلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: “أسلمت على ما أسلفت من خير”.. وربما انتفع بها عقبهم وذراريهم فكان العمل الصالح بركة عليهم كما ورد في حديث سلمان بن عامر لمَّا سأل النبي عن أعمال أبيه في الجاهلية “إنها لن تنفعه ولكنها تكون في عقبه، فلن تخزوا أبدا، ولن تذلُّوا أبدا، ولن تفتقروا أبدا”.
فالجوارح التي تتحرك بأعمال البر وقلبها معلق بالله الحي القيوم.. لا تعرف أعمالها الموت ولا النوم حتى ولو قامت الموانع وضاقت السبل، بل حتى ولو ماتوا يخلفون وراءهم من يبقي أعمالهم بالصدقات الجارية أو بالأوقاف الإسلامية.. التي هي سمة من سمات العمل الإيماني، ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى: “وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ” فلو قال ابن جدعان: “رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين” كما قالها من هو خير منه وأبر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام: “وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ، رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ”، لكانت هذه الكلمة هي البرهان الساطع على أن عمارة الإيمان حلت بذلك العقل وذلك الجسد، ولتبددت مخاوف الإسلام من أن يعيش المرء كالآلة والبهيمة لبدنه وعقله.. هاجرا روحه التي هي سر الله جل جلاله فيه، فإذا لم يرع سرّ الله فيه كان الأولى به ألا يرعى له الإسلامُ حقا، وألا يذكر له يدا.. فيُنسى لأنه نسي، ويجحد لأنه جحد.. ومن لم ير بحر غيره كان الأولى به أن تعمى الأبصار عن قطراته.. “فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى” وهذا هو سر العمل الإسلامي ولبّه.. لا يرتبط بإنجازات ولا جماهير حتى تصفو الروح، وتصلح المعاني على بيع النفوس لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا.. فعلى قدر الاستعداد يكون الاستمداد.. بل إن قوله سبحانه “كُلاًّ نُّمِدُّ” عدل، وفضل الله أوسع للمؤمنين حيث قال: “إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَاد” وقال: “لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون” وقال: “هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ” وقال: “إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر” وقال: “عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ”.
وبقدر حسن الاسترشاد يكوم تمام الإسعاد.. “وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ”..
والله الموفق وهو تعالى أعلى وأعلم.