معالم في طريق الوسطية والاعتدال..

يشترك عامة الناس في ذم التطرف ومدح الوسطية..

وتتنامى في بلدنا -كغيره- الحملة ضد التشدد الفكري والسلوكي، والدعوة إلى ترسيخ الإسلام السمح المعتدل..
وهي حملة محمودة من حيث المبدأ، إلا أنها تفتقد عنصرا أساسيا لتكون حملة إصلاحية صادقة؛ ألا وهو التحديد الشرعي لمفهومي “الوسطية” و”التطرف”..
كما أنها تعاني من سلبية توظيفها لخدمة توجهات سياسية وأخرى (إيديولوجية) ذات طابع إقصائي وأهداف (استعمارية) خطيرة..
وقد احتكر بعض التحكميين -من الساسة والمفكرين وأشباه العلماء- الحق المطلق في تحديد مفهومي الوسطية والتطرف، ثم اتخاذ المواقف العملية التابعة لذلك التصور؛ إقصاء واستئصالا أو نصرة وتمكينا..
فأضحت الدعوة إلى الوسطية أداة لتصفية حسابات وخدمة سياسات وإملاء توجهات وقناعات، بدل أن تكون أداة إصلاح، وسدا منيعا في وجه الفكر الإرهابي المدمر..
وهو ما وقع -تماما- فيما سمي بالحرب على الإرهاب، الذي تكشّف للجميع أنها حرب على الإسلام وإجهاز على ما يخشى أن يكون نواة لقومة إسلامية..
أزهقت آلف الأرواح، وانتهكت الأعراض، وأهدرت الحقوق، وقتل الشيوخ والأطفال والنساء، في فلسطين وغزة والبوسنة والعراق وأفغانستان ..، باسم محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان..
وإذا كان هذا هو الوجه “القتالي” للحرب على الإسلام، وكانت ذريعته: مواجهة الإرهاب ونشر الأمن والسلام! فإن الوجه “الفكري” لهذه الحرب؛ هو إقصاء السلفية والتمكين للطوائف المعادية لها باسم: مواجهة التطرف ونشر السماحة والوسطية!
وكما حرص الاستئصاليون على إبقاء مفهومي “الأمن والإرهاب” مطلقين من كل تحديد ليدخلوا فيهما من شاءوا ويخرجوا من شاءوا؛ فكذلك فعلوا بمفهومي “الوسطية والتطرف”..
من هنا تأتي هذه السلسلة؛ تصحيحا للمفاهيم وضبطا للمصطلحات، في ضوء الأصول الشرعية المتفق عليها بين أئمة المسلمين والاستدلالات القائمة على نصوص القرآن والسنة وما استنبطه العلماء من فقههما..
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود/88]

السلفية.. وسطية أم تطرف؟!
-1-
مدخل:

إن المتأمل المنصف في الحملات الفكرية والسياسية والإعلامية التي تشن في الآونة الأخيرة ضد التطرف والتشدد؛ يدرك أن كثيرا من الذين يتبنونها، لا يعتمدون في موقفهم على معيار شرعي منطقي، وإنما يصدرون عما تمليه ميولاتهم وقناعاتهم التي يتضح في كثير من الأحيان أنها مجرد مصالح وأهواء وشهوات تكره نفوس أصحابها صراحة الحق ومستلزمات الاستقامة والجدية، كما أن كثيرا من متزعميها من “العلماء” يعانون من ضغوط سياسية تفرض عليهم رسم صورة معينة لطريقة التدين، تتماشى مع قناعات الزعماء وتستجيب لإكراهات العولمة، الشيء الذي يقحمهم في دوامة من التأويلات المتعسفة وتحميل النصوص ما لا تحتمل، وإفراغها أحيانا من مضمونها بذريعة الخروج من فقه الجزئيات إلى الكليات المقاصدية، ومراعاة فقه الأولويات..
ولما كانت أصول السلفية عصيَّة على هذا التوجه الذي يؤول في النهاية إلى تحريف الإسلام ومسخ كثير من أحكامه وآدابه؛ صنفت على أنها (مذهب) متشدد تتعين محاربته ومنها التضييق على دعاته..
إن كثيرا من الذين يرفعون أصواتهم بذم التطرف والتشدد والغلو، يعانون هم أنفسهم من نوع من التطرف؛ وهو التطرف ضد الدين -بقصد أو بغير قصد-؛ حيث ترى الواحد منهم يرفض عددا من الممارسات أو الأفعال، ويسارع إلى رمي أصحابها بالتطرف أو التشدد أو التزمت أو الانغلاق دون أن يكلف نفسه عناء التقييم الموضوعي لموقفه، ودون أن يسأل نفسه: هل اتخذ هذا الموقف من منطلق شرعي موضوعي عادل، أو من منطلق الهوى والتشهي والميل مع رغبات النفس وشهواتها؟
منطلق يخفيه العوام تحت دثار المقولة الشعبية: (شويا لربي وشويا لقلبي)!
ويرفع له بعض المثقفين شعار: الوسطية واليسر والسماحة ومقاصد الشريعة وتوخي المصلحة!
وما هي في الحقيقة إلا أهواء وشهوات أصابت الجهاز المناعي لأولئك المتهاونين فأردتهم صرعى لتصورات اختلطت فيها المفاهيم وتداخلت الأفكار، فتشوشت الصورة وأصيب مركز التصور عندهم بضبابية واضطراب..
فإن النصوص الشرعية صريحة في إثبات ما نفوه، أو نفي ما أثبتوه، وفقهها مسطر عند أئمة الأمة المتفق على فضلهم وعلمهم، ودلالتها من ثابت الأحكام وليست من الأحكام التابعة للمتغيرات الزمانية أو غيرها..
ومع ذلك يترك النص ويتبع الهوى، بل ويرمى المتمسك بالنص بأنه متشدد متعصب!!
وإن أدري لعل هؤلاء هم المقصودون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “وإنه ليخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله” [رواه أبو داود وصححه الألباني]
وإن أدري لعل زماننا هو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة إذا ترك منها شيء قيل: تركت السنة؟” قالوا: ومتى ذاك؟ قال: “إذا ذهبت علماؤكم وكثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين” [قال الشيخ الألباني: رواه الدارمي (1 / 64) بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن عن ابن مسعود موقوفا وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكما].
أجل؛ عشنا إلى زمان يستهزئ فيه الطالح بالصالح، ويُحترم الفاسق ويهان صاحب الاستقامة، ويفرح بالمتبرجة ويكشر في وجه المنتقبة، ويبغض السني المتبع، ويحب المحْدِث المبتدع..
زمان قامت فيه الدعوة لاحترام كل الأفكار وأنواع السلوك، إلا فكر وسلوك من يريد الالتزام بعقيدة الحلال والحرام، والسنة والبدعة، والاستقامة والانحراف ..
فهذا توكل له التهم الوهمية، ويصادر حقه في التعبير عن رأيه، ويوصف بأقبح الأوصاف وأقذع النعوت؛ من تشدد وتطرف وإرهاب وظلامية ورجعية …إلـخ
وإنما المتفتح المعتدل؛ من أحل حلق اللحى وتبرج المرأة وسماع الغناء ومصافحة النساء، واجتنب كلاما من قبيل: لا تجوز الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويجب غض البصر وكل بدعة ضلالة وأقبح الذنوب الشرك…
وقد جندت لبلورة هذا التصور وفرضه على الناس؛ المنابر الإعلامية، والأنشطة الثقافية والفنية، والإيديولوجيات السياسية، واتخذت القرارات الإقصائية بإغلاق المدارس ودور القرآن، وتوقيف بث القنوات، وعزل الخطباء، ..
ولم تشفع للسلفيين قوانين الحريات العامة، ولا مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان!
فما هو وزن تلك التصورات في الميزان الشرعي؟ وما هي خلفيات هذا الانقلاب في المفاهيم؟ وما هو التأصيل الشرعي لتصحيحها؟ وما الفائدة من تصحيحها في خضم هذه الموجة من الانحراف عن جادة الدين والتمييع لأحكامه وآدابه إلى درجة الإيهام بأن هذا هو التوسط والاعتدال وغيره تشدد وتعنت؟
وأخيرا: ما هو الحكم الشرعي في المسائل التي أثارت حفيظة المتساهلين، وجعلتهم يحكمون على المحافظين عليها بالتشدد والانغلاق؟
والجواب على هذه الأسئلة ومثيلاتها هو موضوع حلقات هذه السلسلة التي نهدف من خلالها إلى نفض غبار التشويش وقلع جذور التحريف، وتوضيح المستند الشرعي لما تتبناه السلفية من أحكام وما تتخذه من مواقف تجاه بعض ما شاع من أفكار وقناعات، توضيحا يُبقي معالم الحق بارزة في طريق الغربة الطويل..
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم..

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *