جرب المسلمون مع مطلع القرن الرابع عشر الديمقراطية الغربية فأخفقوا في الوصول إلى استقرار سياسي وسلام اجتماعي ورخاء اقتصادي، والتجأوا إلى الاشتراكية دون أن ينتهوا إلى نتيجة تضمن لهم ما يتطلعون إليه من كفاية وعدالة ومساواة وتكافؤ للفرص وقضاء على الفوارق ومحو للطبقات، وعمد بعضهم إلى تبني الأنظمة الديكتاتورية سواء منها ذات الطابع العسكري والبوليسي أو ذات النزعة العنصرية والقومية الضيقة، فلم يزدهم ذلك إلا تخلفا واندحارا وإمعانا في التخبط والفوضى والتيه، وقامت في البلاد الإسلامية تجارب شتى، شرقية وغربية، مدنية وعسكرية، متطرفة ومعتدلة، يسارية ويمينية، فلم يبلغوا شأوا ولم ينالوا حظا من التوفيق، ولم يزدادوا إلا انحرافا وزيغا عن الصراط المستقيم وطريق الحق وسبيل الرشاد، ومضى القرن الرابع عشر بكل الانتكاسات والهزائم والتجارب الدامية الفاشلة التي عرف بها، فمن الانقلابات إلى الثورات إلى الاضطرابات إلى الديكتاتوريات المتعددة الأشكال والأنماط، ومن القهر إلى الإرهاب إلى القمع إلى امتهان الكرامات وإذلال العباد وإفقار البلاد وتمزيق الصف، ومن العمالة والخيانة والتواطؤ مع العدو إلى التآمر ضد الأمة باسم الثورة والتقدمية، وإلى التطاول على عقيدة الشعوب المسلمة بدعوى تحريرها وتحديثها وعصرنتها، وإلى النيل من القيم والمقومات والمقدسات، ومن تشويه التاريخ وتزييف حقائقه، إلى تضليل الأفكار وتخدير العقول تارة بدعوى العلم والعلمانية، وتارة أخرى باسم التنوير والمدنية، وفي غالب الأحيان بالضغط والإكراه والتهديد والأساليب الوحشية في التبليغ والدعاية والإعلام والتعليم والتلقين دون مراعاة لحقوق الإنسان في التلقي والتعليم والأخذ والاقتباس والحرص على ذاتيته وإنسيته وقيمته الآدمية.
وكان من نتائج هذه الغارة على الإنسان المسلم على مدى قرن كامل أن تفشت في البلاد العربية أنماط من السلوك الذي يستمرئ الذل الفكري ويستسيغ المسكنة وانحطاط الشأن ويرضى بالخنوع ووضاعة المكانة، اللهم إلا ما كان من نماذج أبت على الذوبان وانفلتت من الاحتواء والاستيلاء والإجهاض، ورضت أن تكون حرة وسط غابة كثيفة يفترس فيها وحوش الإنس ذوي الإرادات الضعيفة والاستعداد للسقوط في حمأة الضياع الحضاري والارتباط بالقوى الشرسة المتآمرة ضد أصحاب الفكر النير وعزة النفس وقوة الإرادة وصلاحية الاختيار، وانتشرت في البلاد العربية والإسلامية أنظمة الجبروت تفتك بالإنسان وتقتل فيه النخوة والرجولة والشعور بالذات، فكان إن نشأت أجيال متعاقبة لا تفقه من أمر دينها مثقال ذرة، ولا تدرك حدود حضارتها ومعالم تاريخها، ولا تكاد تعي وجودها المادي والمعنوي، مما مهد الطريق أمام أعداء الإنسان ليعيثوا في الأرض فسادا ويدمروا الشخصية الإنسانية من الداخل ويقيموا لأنفسهم هياكل من الوهم والخرافة والأسطورة ويخلقوا لذواتهم صروحا من الخيال وأضغاث الأحلام وفاسد التصورات وساقط الشعارات، وبذلك انقادت الشعوب الإسلامية وراء جلاديها، وسارت دون وعي في طرق الغواية والضلالة والبهتان فضاعت فلسطين، وضاعت الكرامة الإسلامية بضياعها، وانزوى المسلمون في جانب وخلا الميدان من وجودهم وأصبح شذاذ الأفاق أبطالا وزعماء وقادة، أوجدوا لأنفسهم تلامذة وأنصارا ومريدين.
في هذه الأجواء القاتمة الملبدة بسحب الردة والتراجع والانهزام الحضاري مضت القوى الدولية الرهيبة تضرب معاقل الإسلام وحصونه معقلا بعد معقل وحصنا إثر حصن، فتساقط منها ما تساقط وتضعضع ما تضعضع، وانهار ما انهار، وزلزلت الأرض من تحت أقدام المسلمين، فإذا هم في وضع لا يحسدون عليه، تتناوشهم السهام من كل جانب، وتتواطأ ضدهم أمم الأرض، وصدق فيهم حديث رسولهم عليه السلام، فإذا هم كثرة، ولكنها كثرة كغثاء السيل، وتلك من دلائل النبوة في هذا العصر.
ما من أمة من أمم الأرض أصابها ما أصاب أمة الإسلام على مدى تاريخها الطويل، وكان نصيبها من الهزال والضعف والعجز في القرن الرابع عشر أضخم وأكبر مما نالها على امتداد القرون السابقة وبذلك أمكن القول إن جميع القوى الدولية المتصارعة في ساحة الأمم ساهمت بطريقة أو بأخرى في التآمر على أمة الإسلام في العصر الحديث.
ولكن هذه الأمة خيبت ظنون أعدائها وانتعشت على حين غرة، وقامت تسعى إلى استرداد مكانتها تحت الشمس وتدافع عن حقها في الوجود الحر القوي المكثف، وتكافح من أجل البقاء والحياة الكريمة، ومن هنا كانت حركات الصحوة واليقظة العسكرية منها التي انتهت بطرد الجيوش الغازية أو الفكرية والسياسية التي لا تزال تعمل عملها في إيقاظ الهمم واستنفارها وحفزها ودفعها إلى المزيد من التحرك الحضاري الإيجابي في الاتجاه الذي يحقق القوة والمناعة والعزة للمسلمين في كل مكان.
يمكن لنا أن نجزم دون مبالغة أو مغالاة أن الوضعية الراهنة للمسلمين في مشرق العالم الإسلامي ومغربه تبشر وتطمئن القلب، ذلك أن الأزمات الخانقة التي تعيشها الأمة الإسلامية لا يمكن أن تكون إلا إيذانا بزوال أسباب التخلف وقرب الخروج من المأزق، وما هذه الفتن والقلاقل والفواجع والحرائق التي تملأ الساحة الإسلامية إلى آلام المخاض وقمة العسر الذي كتب الله أن يعقبه يسر طال الوقت أم قصر، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وليس من شك -أيضا- أن المسلمين يقفون على مفترق طرق، وتحاصرهم معارك من شرق وغرب على السواء، ولكن هذا الواقع الشديد الحلكة والقتامة والسواد لا يمكن أن يمنعنا من التفاؤل طالما إن الإسلام لا يزال هو القوة المحركة والحافز والدافع المباشر في كل ساحة يضطرب فيها الوضع وفي كل ميدان تشتد فيه الوطأة على المسلمين، وذلك بالرغم من غلبة القوى المناهضة لهذا الدين وتفوقها وبطشها، بل إن هذه الصفات جميعها ما هي إلى إرهاصات النصر وعلامات الفوز وإمارة الغلبة التي كتب الله في اللوح المحفوظ منذ الأزل أن تكون للمؤمنين.
الأمر في هذا المستوى يخرج عن نطاق التفاؤل والتشاؤم، أو التخمين والرجم بالغيب أو التنبؤ، لأنه يتعلق بقضية إيمانية هي جزء من إيمان المسلم في كل عصر، ذلك أن الإسلام قاهر كل عقيدة، وتبقى مسألة التوقيت وهذه خاجة عن علمنا وإرادتنا وتقديرنا.
من هذه الزاوية نتطلع إلى آفاق المستقبل، وبهذا المقياس نحكم على الماضي والحاضر ونستقرئ ما تموج به حياتنا المعاصرة من صخب وصراع وفتنة واضطراب.
والحق أن التجارب المريرة التي مر بها المسلمون طوال القرن الرابع عشر الهجري ليست إلا دروسا وعبرا وعظات ومن حقنا أن نعمل عقولنا -في وعي كامل- في تدبر النتائج المستخلصة واستيعابها حتى تكون لنا مصابيح على طريق المستقبل.
إن العالم الإسلامي وهو يعيش السنة الأولى من القرن الخامس عشر يتلمس طريقه في وعي وبصيرة نحو استعادة دوره الحضاري، ولن تفلح كل القوى المعادية في إيقاف زحفه المبارك.
وهو زحف مبارك ما في ذلك شك، ومبارك لأن الله يرعاه ويزكيه ويباركه.
وتلك هي عقيدتنا…
وذلك هو يقيننا…
افتتاحية دعوة الحق
مجلة دعوة الحق العدد 8 السنة 21
صفر/ربيع الأول1401/ دجنبر 1980