الجهاد والإرهاب.. حلب تُباد والمسلمون قعود

من يرى المجازر التي يرتكبها الغرب في بلاد المسلمين، البارحة الأمريكان في الصومال وأفغانستان والعراق، ذبحوا خلال سنين طويلة مئات الآلاف من المسلمين والدافع دائما محاربة الإرهاب، واليوم روسيا بعد أفغانستان والشيشان تصول وتجول وتعربد وتقتل في المسلمين.
حتى الهدنة من أجل الإمدادات الاجتماعية لإسعاف المرضى والجرحى بالدواء والغذاء والألبسة لم تسمح بها، واستعملت بشأنها حق الفيتو/النقض لتحول دون توصل إلى قرار أممي.
أمريكا وروسيا تتصارعان من أجل النفط والهيمنة على المناطق الاستراتيجية، هم قتالون مجرمون سفاكون لدماء الأطفال والنساء، يزايدون على بعضهم البعض بشأن الإنسانية والرحمة، ويفضحهم لحن القول لكن للأسف تبلّد منا الإحساس وتكلست الأفئدة.
في الوقت الذي تنتهك كل الشرائع والقوانين في أرض العراق والشام في دار الخلافة والحضارة الإسلامية، حيث تغتصب الحرائر أمام أعين آبائهن وأزواجهن وإخوانهن إمعانا في التعذيب ومبالغة في الإذلال، حيث تداس أجساد الأطفال بالدبابات، حيث يدفن الناس أحياء.
في وضع كهذا؛ يجتمعون جميعا في مجلس الأمن الذي لا يحمي إلا دول الغرب، فهي من أنشأته ووزعت بينها حق الفيتو، وقسمت دولنا بينها إلى مناطق نفوذ، نساق إلى الذبح كلما رأى زعماء مجلس الأمن أن دماءنا حان سفكها.
اجتمع زعماء بلدان الإجرام يتبادلون التهنئة في الجلسات الخاصة، ثم يدخلوا إلى صالات العرض بمجلس أمنهم لتنقل الشاشات والإذاعات مسرحياتهم يتبادلون الأدوار.
اجتمعوا مساء يوم الثلاثاء المنصرم بـ”مجلس أمنهم وحربنا” وسموا اجتماعهم “اجتماعا طارئا” لتباحث الوضع في حلب بناء على طلب من فرنسا، التي لا زال دم المدنيين المسلمين في مالي عالقا على وجوه ساستها الصفراء، وعرض خلاله الأمين العام لمنظمة “الأمم المتحدة على المسلمين” كلمته أمام الجلسة معلنا أن المنظمة تلقت “تقارير فظيعة” عن معاناة المدنيين في حلب، مؤكدا أن على الجميع أن يفعل كل ما في وسعه لوقف المذبحة الحاصلة هناك.
هي مسرحية درامية، قام خلالها الممثل الفرنسي الكبير لدى مسرح الأمم المتحدة فرنسوا ديلاتر، وأدى دوره معلنا “أن الأوضاع في حلب لا تزال مأساوية، مشيرا إلى تقارير أفادت بإعدام كثير من المدنيين والاستمرار في أعمال القصف والتدمير، وإحراق المدنيين الأحياء، حيث تملأ الجثث شوارع تلك المنطقة في شرق حلب”.
واعتبر الممثل البارع ديلاتر أن “هذه الطرق البربرية لنظام الأسد وهذا القصف والتقتيل الذي لحق بالمدنيين في حلب أمر غير مقبول”، محذرا من أن الأمور قد تصل إلى أبعد مما هي عليه الآن.
ثم صعد على خشبة الأممية الممثل البريطاني في مسرح “الأمم المتحدة على المسلمين” ماثيو ريكروفت معلنا بصوت ناعم أن ما يجري في حلب هو “يوم مظلم”، مطالبا روسيا وإيران باحترام قواعد الحرب، واحترام الغالبية العظمى من الدول الأعضاء في مجلس الأمن والأمم المتحدة.
وقال إن روسيا أساءت استخدام حق النقض (الفيتو) المرة تلو المرة، متسائلا “كيف يمكن أن تنتهكوا ميثاق الأمم المتحدة التي ندعي أننا نحترمها”، وشدد على ضرورة وقف المذبحة الحاصلة هناك.
وختم قائلا إن مجلس الأمن “لا يمكن أن يغمض عينيه إزاء هذا النزاع المرعب في هذا القرن، ولا يمكن أن تشغلنا المزاعم الكاذبة بشأن الحرب على الإرهاب، ولا يجب أن تكون هناك حصانة لهذه الجرائم التي ارتكبها الأسد وداعموه الإيرانيون والروس”.
ثم جاء دور الممثلة الأميركية “سامانثا باو” لتصعد إلى خشبة مسرح “الأمم المتحدة على المستضعفين”، معلنة بأداء هوليودي متقَن: “إن النظام السوري وروسيا وإيران يخفون كثيرا من الحقائق في حلب، متسائلة بكل رقة: “ألا يشعركم ما تفعلونه في حلب بالخزي والعار؟”.
ثم دعت نظام الأسد وروسيا بالسماح للمدنيين بالمغادرة من حلب، وقالت متخوفة: “نخشى أن يقوموا بإعدامهم حال خروجهم”.
ثم انتفض الممثل الروسي فيتالي تشوركين، معلنا رفض لهذه الاتهامات، موجها حديثه إلى الممثلة الأميركية قائلا: “ما أجده غريبا الكلام الذي تحدثت به سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها الأم تيريزا.. تذكري تاريخ وسجل بلدك.. تتحدثين وكأنك تمتلكين الأرضية الأخلاقية”.اهـ
هكذا، أسدل الستار على الخشبة والممثلين، ليخرجوا إلى المنتج المنفذ على أرض الواقع ويتقاضون أجورهم، في حين تبقى أزقة حلب وأخواتها تجري بدماء أطفالنا ونسائها وشيوخنا.
لكن رغم هذا كله أعجبني قول السفير الروسي: “ما أجده غريبا الكلام الذي تحدثت به سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها الأم تيريزا.. تذكري تاريخ وسجل بلدك.. تتحدثين وكأنك تمتلكين الأرضية الأخلاقية”.
أعجبني لأنه يعري الحقيقة في لحظة اتهام وإن كانت في مشهد تمثيلي مسرحي.
لا أحد منهم يمتلك الأرضية الأخلاقية، كلهم سفاحون قتالون مجرمون، متاجرون بحقوق الإنسان والحريات، أعجبني كلامه لأنه يفضح نعيق الغربان العلمانية عندنا، عندما يرددون بالوكالة أن كل ما يقوم به الأهالي هناك في ميدان القتال هو إرهاب.
ثم يفضحنا جميعا عندما لا نستطيع التعاون مع إخوان لنا يموتون بالجوع والعطش والبراميل المتفجرة والقنابل الروسية والصواريخ النصيرية، ونبقى نحن هنا نحتسي القهوة السوداء، مرعوبين حتى من مجرد الدعاء في المساجد يوم الجمعة للمجاهدين.
فعلى الأقل كنّا قبل الحادي عشر من شتنبر 2001 عندما نصلي الجمعة يذكرنا الخطيب بأن هناك مسلمين يقاتلون ويقتلون، فيدعو للمسلمين بالنصر وعلى الكافرين المقاتلين بالدمار والهزيمة، فيرفع العاجزون أمثالي أصواتهم بالتأمين.
أما اليوم ولأن العلمانية الدولية وخدامها في البلدان الإسلامية اعتبروا أن هذا الدعاء فيه نشر لمشاعر الحقد والكراهية، فقد تقرر رسميا منع الخطباء من رفع الأصوات بالدعاء سواء للمجاهدين أو على الكافرين، ومنعوا تبعا لذلك تأمين المؤمنين الذي كان بمثابة الوازع الموقظ لضمائر المسلمين لتتضامن مع إخوانهم الذين يستهدفهم الغرب بالقتل والدمار والاغتصاب والتشريد.
لم يسبق في تاريخ المسلمين أن دخل أعداؤهم لبلدانهم، واستبيحت أعراضهم واغتصبت حرائرهم، واحتلت مقدساتهم، ولم يهبّوا لنصرة بعضهم البعض بالمؤن والعتاد والرجال.
كان مفهوم الأمة الواحدة هو الرابط بين المسلمين، وعقيدة الولاء والبراء قوية في ضمائرهم، تستفز في دواخلهم المشاعر بالأخوة الإيمانية وتقوي في قلوبهم أواصر العقيدة، فيتحرك الجميع للنصرة والتعاون على رد الصائل.
فكيف أصبح الجهاد من أجل حماية الدين والأوطان والأعراض إرهابا؟؟؟
وكيف أصبح الدفاع عن المقدسات جريمة يعاقب عليها القانون؟؟
القصة طويلة، وصعب مقاربتها، والصعوبة فيها ليست فقط في المقاربة الفكرية المعرفية، بل كذلك في الخوف من قانون الإرهاب أن تشمل تفسيراته المطاطية هذه السطور وكاتبها.
لذا فإننا نتبرأ خائفين وجلين، منذ البداية من كل إرهاب ومن كل تمجيد له. لكن من حقنا مع ذلك أن نحاول تخليص مفهوم الجهاد من تهمة الإرهاب الناسفة لشرعيته المنفرة منه حتى في أمس الحاجة إليه.
وأذكر وأنا شاب في ثمانينيات القرن الماضي عندما كان يستشهد أحد المجاهدين المغاربة في معارك فلسطين ضد عصابات الإرهابيين الصهاينة، كنت أرى الملصقات في شوارع سلا تعزي فيه وتنيط باسمه لقب الشهيد فيكبر في أعين الناس وتبجل أسرته وينظر إليها بعين الاحترام والتقدير.
إننا نعتبر أن تفريط العلماء لاسيما الرسميين في تخليص المفهوم الأصيل للجهاد من ملصقات الإرهاب هو العامل الأساس في التحاق شباب الأمة بالجماعات الإرهابية، لأنهم يساعدون بصمتهم على خلط المفاهيم وإلصاق التهمة بالذين يدافعون عن دينهم وأوطانهم.
كما أن العلماء والمراكز الفقهية والمجالس العلمية عندما تغفل هذا الموضوع تترك المجال رحبا فسيحا لدول الغرب المتغلبة، لتضع المجاهدين في فلسطين على قائمة الإرهاب، وكذلك في العراق إبان غزوه من طرف الجيوش الأمريكية، واليوم من طرف الجيوش الصفوية العراقية، وكذلك المجاهدون الشرعيون في سوريا، إذ تسمهم بالإرهاب وتنصر عليهم الإرهابيين الروس وحلفاءهم من الصفويين والنصيريين.
لقد أصبحت شعوب العالم الغربي تعتبر المستوطن الصهيوني، ذَا اللحية الطويلة والظفيرتين المتدليتين من صدغيه والمدجج بالسلاح، مقاوما مدافعا عن أرضه، في حين أسهم سكوت العالم الإسلامي في إلصاق تهمة الإرهاب بالفلسطيني المنكوب المحتلة أرضه.
ألا يحق لنا أن نطرح موضوع الجهاد للنقاش والتفاعل، لعلنا نتدارك ما تبقى في أذهان الشعوب من نخوة في ظل هذا العار والضيم.
فمن ينكر أن الجهاد فريضة إسلامية؟؟
إنه لا يخلو كتاب فقه من تحديد أحكامه وبيان شروطه، فكيف أصبح مرادفا للإرهاب؟؟
من المؤكد أن الدول الإسلامية ستكون أحوج من الشعوب إلى مفهوم الجهاد في القابل من الأيام، فالغرب بدأ حملته الإمبريالية مرة ثانية، والخريطة الجديدة للشرق الأوسط الكبير تُنزل أقساطا، ووسيلة تحويلها واقعا على الأرض لن يكون إلا من خلال إشعال الحروب تلو الحروب.
وكيف لا تحتاجه دولنا وشعوبنا والتاريخ يخبرنا أن ألمانيا في الحرب العالمية الأولى كانت تصدر جريدة ورقية باللغة العربية سمتها: (الجهاد) لتستحث المسلمين على الجهاد ضد الفرنسيين والإنجليز وحلفائهما، بل ادعى قيصرها الإسلام ليستميل المسلمين الذين كانت فرنسا وبريطانيا تجندهم بالقوة ليقاتلوا إخوانهم من الأتراك والعراقيين والسوريين الذين كانوا تحت حكم الخلافة العثمانية.
ولنستحضر تاريخنا القريب وما عاناه كل المسلمين دولا وشعوبا من قتل وتدمير واحتلال، عندما أراد الغرب أن ينزل على الواقع خريطة الدول الإسلامية التي رسمها سايكس الإنجليزي وبيكو الفرنسي.
ولنتعظ بحكمة أبي البقاء الرندي عندما رأى محاكم التفتيش، وما ارتكبه الإسبان من جرائم فظيعة وإبادات للمسلمين عظيمة، فقال باكيا:
هي الأمور كما شاهدتها دول — من سره زمن ساءته أزمان
وهذي الدار لا تبقي على أحد — ولا يدوم على حال لها شان

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *