النموذج الرابع: مسألة أول واجب على المكلف:
جاء في حديث معاذ أن أول واجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذلك أخذا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “يا معاذ إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله” إلى آخر الحديث، وفي الحديث الصحيح: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله”، وفي الحديث أيضا: “قل لا إله إلا الله”، قاله لعمه أبي طالب وللشاب اليهودي في سياق الموت، فدل ذلك على أن أول ما يكلف به المرء شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى هذا درج السلف.
ولما انتهى الأمر إلى الخلف غيروا هذا الأصل ووضعوا مكانه وجوب معرفة الله بواسطة النظر العقلي والبرهان الكلامي المنطقي اليوناني؛ وفي ذلك يقول الشيخ ابن عاشر في منظومته:
أول واجب على من كلفا ** ممكنا من نظر أن يعرفا
الله والرسول بالصفات ** مما عليها نصب الآيات
ويقول الشيخ المقري في إضاءة الدجنة:
أول واجب على المكلف ** إعماله للنظر المؤلف
ورتبوا على هذا مسألة إيمان المقلد؛ فقال الشيخ ميارة: “وقد حصل ابن عرفة في المقلد ثلاثة أقوال: الأول: أنه مؤمن غير عاص بترك النظر، والثاني: أنه مؤمن لكنه عاص إن ترك النظر مع القدرة، والثالث: أنه كافر”!
وهذه المسألة في الأصل من مسائل المعتزلة؛ يدل على ذلك أمران: الأول: ورودها في كتاب القاضي عبد الجبار المعتزلي المطبوع أخيرا حول تأويل المتشابه في القرآن، والأمر الثاني: قول أبي جعفر السمناني -وهو من أكابر الأشاعرة-: “هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب”، وقد انتقدها الشيخ أحمد ولد المرابط بقوله: “فالنظر بهذه الطريقة يقول المصنف أنه أول واجب على المكلف، واستدل على ذلك بما جاء في القرآن والأخبار من الحث على الفكر، والحق أن النظر بالطريقة اليونانية التي ذكر ليس بمطلوب شرعا أصلا حتى يكون أول واجب، والذي حث عليه القرآن إنما هو النظر في صنع الله الذي أتقن كل شيء الدال على كمال قدرته لا النظر اليوناني، {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون}.
قلت: هكذا غيَّر الخلف وسيلة معرفة الله ومعرفة رسوله صلى الله عليه وسلم بمنهاج أجنبي، ورتبوا عليه إشكالية إيمان المقلد فاضطربوا اضطرابا شديدا في الحكم عليه كما فهم من كلام ابن عرفة السابق، وليس هذا فقط، بل هذا المنهاج نفسه فاشل في كل مباحث التوحيد وفي مقدمتها معرفة الله ومعرفة رسوله؛ فبالنسبة لمعرفة الله نلاحظ فشل هذا المنهاج في باب التوحيد وفي باب الصفات وفي باب القدر وفي باب أفعال العباد، وبالنسبة لمعرفة الرسول نلاحظ فشل هذا المنهاج في باب الاتباع وفي الفرق الدقيق بين الألوهية وحقوق الرسالة، لأن المنهاج المذكور ليس فيه أكثر من دائرة ما يجب ويستحيل وما يجوز لله عقلا، ودائرة ما يجب وما يستحيل وما يجوز في حق الرسول عقلا، ولا ذكر للشرع عندهم في رسم هذه الدوائر، ومن ثم سهل على المتطرفين من الصوفية الخلفية أن يصفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل قول البوصيري في قصيدته البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به**سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
أو بمثل قول الشيخ الشعراوي في كتابه: (أنت تسأل والإسلام يجيب): “خلق الله الأشياء من نور محمد ومن نور الله”.
وبعد فهذه شواهد على فشل المنهاج اليوناني في مباحث التوحيد، ومع هذا الفشل الذريع ما زال هو الوسيلة الوحيدة التي تدرس به عقائد الإسلام في غالب المدارس بالعالم الإسلامي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: متى يستيقظ المسلمون من غفلتهم ويدركون أن المنهاج اليوناني الذي يتمثل في علم الكلام وعلم المنطق، وأثبتت التجربة فشله في تأويل صفات الله تعالى وفي بيان أول ما يجب معرفته على المسلم أنه من طلائع الغزو الفكري التي تمهد الطريق وتزيل العقبات لكل أنواع الغزو التي تعرض لها المسلمون لحد الآن في الجبهة الداخلية من طرف الصوفية والشيعة وفي الجبهة الخارجية من طرف اليهودية والمسيحية والشيوعية والعلمانية؟!