يعلم الجميع أن رمضان محطة للتزود بالتقوى والتدرب على الفضائل واهتبال فرصة تصفيد الشياطين لتزكية النفس وتعويدها على فعل الخيرات، وترك المنكرات، وإن كان الأمر يحتاج حذرا كبيرا من شياطين الإنس الذين يعوضون مردة الجن ويتولون مهمتهم بنشاط منقطع النظير، إن لم يكن كل همهم هو هذه الفرصة لتحقيق أكبر قدر من الغواية للصائمين متربصين بالعباد كل العام ينتظرون هذه اللحظة خوفا من رجوع كثير من خلق الله إلى الله بتوبة نصوح وإنابة صادقة، ولذلك تراهم لا يخرجون باكورة إنتاجاتهم الساقطة إلا في شهر رمضان في تماه مع النفوس الخبيثة التي استحوذت على أصحابها وصارت قائدا لهم إلى مهاوي الردى دون مراعاة لحرمة زمان ولا مكان؛ فمن تشرب المعصية فلا حظ له في رمضان، فهؤلاء هم المحرومون الذين أخبر عنهم النبي الكريم الذي لا ينطق عن الهوى.
إن السؤال المطروح بقوة الآن هو: ما السبيل إلى صيانة صيامنا من الضياع؟ وهل ظروف الزمان والمكان تسمح ولو بقدر معين بجعل هذا الشهر شهر طاعة بامتياز؟ أم نحتاج كلنا لعمرة أواعتكاف ننقطع به عن العالم الذي يعج بمظاهر الفساد والفسوق والعري والخنا وغيرها مما يقسي القلب وينقص الإيمان ويكدر صفو العبادة؟
فمن يستطيع اليوم أن يخرج لحاجة دون أن يكحل ناظريه بالمناظر المنكرة أو يلوث أذنيه بالكلمات الساقطة أو أن يعود بقلب سليم؟ فالشعور بحرمة هذا الشهر أصبحت في حكم المنعدم إلا عند قليل ممن أكرمهم الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
لقد جاءتنا فرصة لنتغير من سيء إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، وأن نتدرج في مراقي الكمال البشري والتصعد في مقامات القرب من الله، وعنوان ذلك هو الزيادة في الطاعة مع توالي أيام رمضان والشعور بالتنقل من حال إلى حال أحسن، فلا يجوز في مثل هذه اللحظات العطرة الرجوع القهقرى لأن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على غبن وحرمان، ذلك أن من حسنات الحسنة الحسنة بعدها؛ فمن كان يقرأ حزبين في اليوم فالحق أن يزيد في مقروئه لا أن ينقص وهذا على سبيل المثال.
ومن تأمل في هدي النبي عليه السلام تجلى له ذلك؛ فهو في العشر الأواخر يكون أكثر اجتهادا من الأيام قبلها وتلك ثمرة اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العشر الأوائل وهي أفضل مما يكون عليه في غير رمضان :” فقد كان عليه السلام أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان” فإذا جاءت العشر الأواخر كان أفضل وهذا ما يدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح أنها قالت في شأنه عليه الصلاة والسلام : “إذا كان العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأيقظ أهله وأحيا ليله”.
هذا هو رمضان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند صحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان وليس هو شهر الموائد الممتلئة، والنفقات المنتفخة، والإسراف والتبذير والمفاخرة، فكثيرا ما تكلم العلماء والوعاظ والخطباء عن هذه المساوئ وحذروا من هذه العادات التي شوهت صفاء ونقاء هذا الشهر لكن يبقى الحال هو الحال، وما أن يحل الشهر الفضيل حتى تعود حليمة إلى العادة القديمة، ولم يستطع التخلص من هذا حتى بعض من ينبه عليه.
وهكذا تتعرض شعائر الإسلام للتحريف والتشويه فتصبح الصلاة عادة، والحج رياء وبحث عن اللقب، والزكاة مزايدة ومنّ على الفقراء، والحجاب موضة وإثارة، وشهر الصيام للأكل والكسل والانفعال.. فترى فيه من الموبقات ما جاء رمضان أصلا للقضاء عليها وتعويضها بما هو أفضل وأسمى وأكرم؛ فهل نستطيع إذن أن ننصف هذا الشهر؟ ونجعل موائدنا لقيمات تقيم الصلب وتشد العضد إلا إكراما للضيف وإفطارا للصائم، ومن أخلاقنا قدوة، ومن عباداتنا قربة، ونحقق معاني الصيام كما يجب، وهل يمكن أن نحدث ثورة على العادات السيئة والتقاليد القبيحة؟ كما أحدث الناس ثورة على جوهر الصيام فبدلوا وغيروا، ومن بدل وغير فالله حسيبه.
فحط صيامك أيها الأخ بالعناية والرعاية، ولتكن منك البداية ولا تنتظر غيرك يبدأ فإنه سيذاد أقوام عن حوض المصطفى وتمنعهم الملائكة من الورود فقط لأنهم بدلوا وغيروا وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالحذر الحذر فرمضان فرصة لا تجعلها غصة.