نقد فكر الفيلسوف ابن رشد الحفيد نقد موقف ابن رشد في موضوع وجود الله وصفاته وخلقه للعالم

أما موقفه السابع، فيتعلق بصفة اليد، فزعم أن هذه الصفة هي من بين الصفات الإلهية التي لم (يقتصر الشرع الذي قصده الأول تعليم الجمهور، في تفهيم هذه الأشياء في البارئ سبحانه، بوجودها في الإنسان، كما قال سبحانه: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً) سورة مريم: 42، بل واضطر إلى تفهيم معاني في البارئ بتمثيلها بالجوارح الإنسانية، مثل قوله سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) سورة يس: 71، و(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) سورة ص: 75، فهذه المسألة خاصة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم الله على الحقائق). ومعنى ذلك أن صفة اليد عند ابن رشد ليست صفة حقيقية لله تعالى تليق به بناء عل أنه ليس كمثله شيء، وإنما هي تمثيل مُثل بالجوارح الإنسانية لتفهيم الجمهور، ولا يعرف تأويلها الحقيقي إلا الراسخون في العلم، وهم الفلاسفة أهل البرهان على حد زعمه.
وردا عليه أقول: أولا إن صفة اليد قد نص الشرع على إثباتها لله تعالى صراحة، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) سورة المائدة: 64، و(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) سورة ص: 75. ومن السنة النبوية قوله -عليه الصلاة والسلام-. (وكلتا يديه يمين). وعليه فلا يصح نفي صفة اليد عن الله تعالى وتأويلها، لأمرين أساسيين، أولهما إن الشرع نص صراحة على إثباتها. وثانيهما إنه لا يُوجد مبرر عقلي صحيح على نفيها أو تأويلها، لأن هذه الصفة ليست جارحة كما هي عند المخلوقات، وإنما هي صفة يجب النظر إليها انطلاقا من قاعدة التنزيه الذهبية التي نصّ عليها الشرع في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة النحل: 74، و(وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ) سورة الإخلاص: 4، و(فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) سورة النحل: 74. فهي صفة يجب إثباتها كباقي الصفات الإلهية الأخرى، بلا تشبيه ولا تجسيم، ولا تأويل ولا تعطيل، وإنما هو إثبات وجود وتنزيه، لا إثبات كيفية وتشبيه.
وثانيا إنه -أي ابن رشد- أخطأ خطأ فاحشا عندما زعم أن الله تعالى -في ذكره للصفات- أُضطر إلى تفهيم الجمهور (معاني في البارئ بتمثيلها بالجوارح الإنسانية). وقوله هذا غلط فاحش لا يصح وصف الله تعالى به، لأنه سبحانه هو الخالق العظيم الفعال لما يريد القادر على كل شيء، لا يضطره شيء أبدا. ولو كان الله تعالى يريد من ذكره للصفات ما زعمه ابن رشد، لأخبرنا بما يقصده من تلك الصفات، وأنه لم يجد طريقا لتفهيمنا إلا التمثيل، وبما أنه لم يُخبرنا بذلك ونص صراحة أنه مُتصف بتلك الصفات حقيقة وتأكيدا في نصوص كثيرة جدا، فهذا دليل دامغ على بطلان زعم ابن رشد الذي اعتدى على الشرع وافترى عليه.
وثالثا إن ذكر ابن رشد لقوله تعالى (أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) سورة يس: 71، و(خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) سورة ص: 75، هو أمر لا إشكال فيه، على ما أراد أن يُوهمنا به ابن رشد، فلا تعارض بين الآيتين، فمعناهما بيّنه علماء الشريعة بطريقة التأويل الشرعي القائم على النصوص الشرعية واللغة العربية، والفهم الصحيح لهما، فهم الذين بينوا معنى الآيتين وليس الفلاسفة المشائين بطريقتهم التأويلية التحريفية. فبين علماء الشريعة أن الآية الثانية نصت صراحة على أن لله يدين، ولا تقبل التأويل التحريفي بأن يُقال: لما خلقتُ بنعمتي، أو لما خلقتُ بقدرتي. وأما الآية الأولى فعبّرت عن أمر آخر لا يتعلق بصفة اليد التي أثبتتها الآية الثانية، وإنما عبّرت عن أمر آخر باستخدام عبارة اليد. وهذا أسلوب من أساليب التعبير في اللغة العربية التي يُضاف فيه العمل إلى اليد، ويُراد به صاحبها؛ فإضافة هذا العمل إلى اليد كإضافته إلى الإنسان الذي قام بهذا العمل. فالله تعالى أضاف ذلك العمل بقوله: (مما عملته أيدينا)، وأراد به نفسه، كأنه يقول: مما عملناه، أو مما عملناه نحن، أو مما عملناه بنفسنا. وهذه الطريقة التعبيرية هي طريقة صحيحة شرعا ولغة، موجودة في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) سورة الشورى: 30، و(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) سورة الروم: 41، و(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) سورة آل عمران: 182، فالمراد من هذه الآيات ما كسبه الإنسان نفسه وما قدمه من أعمال، وإن كان عملها بغير يده، كأن يعملها برجله، أو أذنه، أو سمعه، أو بقلبه، أو بكل ذلك، فهي كلها أعماله عُبّر عنها بكسب اليد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *