اتعليق على كلام للإمام الجويني في مسألة التفويض (1) ناصر عبد الغفور

كثير هم علماء الكلام الذين اعترفوا بالحسرة والندم، وتحسروا على ما فات منهم ورجعوا إلى الاعتقاد الصحيح وسلوك منهج السلف والتبرؤ من الكلام وأهله، بعد أن كان حالهم كما وصف الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها°°°° وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعـا كـف حائـر °°°°على ذقـن أو قارعـا سـن نــادم(1)
ومن هؤلاء الإمام أبو المعالي الجويني رحمه الله تعالى، فقد كان من أئمة الكلام ومدافعا عن التأويل كما في كتابه الإرشاد، لكنه تاب إلى عقيدة السلف وبين الحق في كتابه العقيدة النظامية، وهذا مقطع من كلامه في هذا الكتاب:
“اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها.
فرأى بعضهم تأويلها، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب وفيما صح من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.
والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا، اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك، أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها.
فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع بحق.
فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب، ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فقال: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا، فهذا بيان ما يجب لله تعالى”(2).
لكن هذا الكلام من الإمام الجويني رحمه الله تعالى يحتاج إلى بيان، وأخص بالذكر العبارات التالية:
1- وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه.
2- وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها…
3- فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب.
فكل هذه العبارات تحتاج إلى تعليق، فالأمر ليس بالهين إذ إنه يتعلق بأصل مهم من أصول الاعتقاد ونوع عظيم من أنواع التوحيد ألا وهو باب الصفات الذي زلت فيه أقدام وغلطت فيه أفهام وانقسم الناس فيه إلى فرق وفئام.
فتفويض المعاني الذي ذكره الإمام الجويني رحمه الله تعالى لم يكن مذهب السلف البتة ولم يقل به واحد من الصحابة الكرام ولا واحد ممن تبعهم بإحسان، بل كانوا يجرون نصوص الصفات على ظواهرها معتقدين معانيها، وإنما كانوا يفوضون في الكيفيات، فهم كانوا يفهمون معنى الاستواء والنزول والرضى والغضب والمحبة، وغيرها من الصفات الفعلية، ويفهمون معنى الوجه واليد والعين والقدرة والعظمة وغيرها من صفات الذات، فكل ذلك كان معلوم المعنى لديهم، ولم يثبت عن أحد من الصحابة الكرام عليهم أفضل الرضوان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى صفة من صفات الله تعالى، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بين لهم معنى صفة من تلك الصفات، فدل ذلك على أن المعنى معلوم غير مجهول.
وإنما التفويض كان في الكيفيات، فإذا ذكر التفويض منسوبا إلى السلف فإنما هو تفويض الكيف لا المعنى(3)، فكانوا يعتقدون معاني الصفات ويكلون كيفياتها -لا معانيها- إلى الله تعالى، وهذا مراد إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى من قوله: “الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة”، أي الاستواء معلوم المعنى مجهول الكيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- مجموع الفتاوى، 4/73.
2- العقيدة النظامية.
3- التفويض نوعان:
أ- تفويض المعاني: وهذا مذموم، ويلزم منه لوازم فاسدة، كما سيأتي بيانه.
ب- تفويض الكيفيات: وهذا محمود، وهو من صفات المؤمنين، ونتيجة الإيمان بالغيب، والتسليم لشرع الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *