جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، بعدما وصلت البشرية قبل البعثة إلى أحط دركات الجهالة والانحلال الخُلقي والانحراف العقدي، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ نظر إلى أهلِ الأرضِ فمقتَهم عربَهم وعجَمهم إلا بقايا من أهلِ الكتابِ» مسلم، وعن قتادة قال: «كان الرجل في الجاهلية يقامر على أهله وماله، فيقعد حريبا سليبا ينظر إلى ماله في يدي غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضاء..» «تفسير الطبري:10/574».
وقد رسخ الربا فيهم وجرى منهم مجرى الأمور الطبيعية وصاروا لا يفرقون بينه وبين التجارة الطبيعية، وقالوا إنما البيع مثل الربا.. ولم يكن الزنا نادرا ولم يكن مستنكرا استنكارا شديدا، فكان من العادات أن يتخذ الرجل خليلات وتتخذ المرأة أخلاء من غير عقد، وكانوا قد يُكرهون بعض النساء على الزنا..» أبو الحسن الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:58-59.
كما بلغت مظاهر الظلم والاستبداد والطبقية درجة صارت تشكل خطرا على الاستقرار والأمن، «..وكانت في المجتمع العربي طبقات وبيوت، ترى لنفسها فضلا على غيرها، وامتيازا فتترفع على الناس ولا تشاركهم في عادات كثيرة.. وكان النفوذ والمناصب العليا والنسيء متوارثا.. وكانت طبقات مسخرة، وطبقات سوقة وعوام..» المرجع السابق:61.
ولإخراج الناس من براثن هذا الانحراف ورفعا للظلم الذي استشرى في أوصال المجتمع، بعث الله تعالى نبيا عزيزا على المؤمنين رحيما بهم، سبقت نقاوة سيرته وطيب منبته وشرف أصله والآيات الظاهرات على تميزه منذ ولادته بل حتى قبل ولادته بتباشير الكتب السماوية السابقة بنبوته، سبقت مرحلة بعثته، يقول الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الأعراف:157.
وقد أورد أبوبكر الجزائري في كتابه، هذا الحبيب ص: 63-64، أورد عشر آيات عن صدق نبوته قبل وأثناء ولادته صلى الله عليه وسلم، منها: أن أُمَّه آمنة بنت وهب، لما حملت به صلى الله عليه وسلم، لم تجد من وهن وضعف الحمل شيئا، وأنها لما وضعته رأت نورا خرج منها فأضاء لها قصور الشام، وأنه صلى الله عليه وسلم وُلد مقطوع السرة مختونا، وارتج في يوم مولده إيوان كسرى، وخمدت نار فارس التي لم تخمد منذ ألف سنة.
وما عُرف عنه صلى الله عليه وسلم في طفولته ولا في شبابه قبل بعثته، كذب ولا ارتكاب فاحشة ولا خيانة قط، حتى لُقِّب بالصادق الأمين، لما رأت فيه قريش من علو أخلاقه وسمو سيرته، ما لم تره في بشر من قبل، ومن مظاهر ذلك، تحكيم قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في وضع الحجر الأسود في مكانه على جدار الكعبة، «..ولما ارتفع جدار الكعبة وبلغ موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يتشرف بوضع الحجر مكانه.. وشحوا به على بعضهم حتى كادوا يقتتلون.. وما زالوا كذلك حتى أقبل محمد صلى الله عليه وسلم، فما إن رأوه مقبلا حتى قالوا: هذا محمد الأمين رضينا به حكما.. ولما حاذوا به -الحجر الأسود- مكانه من الجدار رفعه صلى الله عليه وسلم، بيديه الكريمتين فوضعه مكانه..» أبوبكر الجزائري، هذا الحبيب: 75.
ويشير القرآن الكريم إلى منزلة النبي صلى الله عليه وسلم من الرسالة بقول الله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» الأنبياء:107، وتتجسد صفة الرحمة هذه، بعظم خلق النبي صلى الله عليه وسلم وعلو قدره ورفعة مكانته، تشريفا له من الله عز وجل في قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» القلم:4، هذا الخلق الذي استطاع من خلاله أن يؤلف بين أقسى القلوب تحجرا، وأن يوحد بين أشد الأرواح تنافرا، وأن يهذب أكثر النفوس تمردا، خلق مستمد من الوحي الإلهي، ومن النور الرباني، فعن عائشة رضي الله عنها لما سُئلت: «يا أمَّ المؤمنين، ما كان خُلُقُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؟ قالت: كان خُلُقُه القرآنُ» صحيح الأدب المفرد: 234، ويتوافق مضمون هذا الأثر مع ثناء الله عز وجل على نبيه بعظمة خلقه صلى الله عليه وسلم.
ويتجسد خلق الرحمة في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، من خلال مواقف لا تحتمل الحصر والعد، نشير إلى جزء يسير منها في هذه الومضات:
حرصه صلى الله عليه وسلم على إخراج الناس من الظلمات إلى النور
التضحية بالغالي والنفيس وتكبد ألوان الإيذاء والصبر على صنوف المشاق، والترفع عن مغريات الدنيا وزخرفها في سبيل الدعوة إلى الإسلام، يقول الله تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُورَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» التوبة: 128-129، وعن عبد الله بن مسعود قال: «كأني أَنظُرُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نبيًّا مِن الأنبياءِ، ضرَبَه قومُه فأَدَمَوْه، وهو يَمْسَحُ الدمَ عن وجهِه ويقولُ: اللهمَّ، اغفِرْ لقومي، فإنهم لا يعلمون» البخاري:3477.
رد السيئة بالحسنة
ومن خصاله العظمى صلى الله عليه وسلم، الصبر على الأذى والعفو عند المقدرة ومعاملة المسيء بالحسنى، وهذه خصلة من مراقي الصفات وسمو المعاملات، فتتحول عداوة المسيء محبة وينقلب أذاه إحسانا، تصير خصومته مودة، يقول الله تعالى: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» فصلت: 34، عن أنس بن مالك قال: «كنتُ أمشي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعليهِ بردٌ نَجْرَانِيٌّ غليظُ الحاشيةِ، فَأَدْركَهُ أعرابيٌّ فَجَبَذَهُ بردائِهِ جَبْذَةً شديدةً، حتى نظرتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ رسولِ اللهِ صلى اللهِ عليهِ وسلمَ قدْ أثَّرَت بها حاشِيَةُ البُردِ من شدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثم قالَ: يا محمدُ مُرْ لي منْ مالِ اللهِ الذي عِنْدكَ، فالتَفَتَ إليهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثمَّ ضَحِكَ، ثم أمَرَ لهُ بعطاءٍ» البخاري: 5809.
العطاء المستمر
عطاء مادي ومعنوي لا انقطاع له في كل حال وكل موقف دون كلل ولا ملل، ومن غير تذمر أو منّ، عن أنس بن مالك قال: «ما سُئل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الإسلامِ شيئًا إلا أعطاه، قال فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلَينِ، فرجع إلى قومِه، فقال: يا قومُ أسلِموا، فإنَّ محمدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقةَ» مسلم:2312.
اللهم ارزقنا حب نبيك وألهمنا اتباع سنته.
والحمد لله رب العالمين
يتبع..