يبقى المرء حبيس ذاته ووهمه المرير، ما لم يستوعب أنه مطالَب بإنتاج إشكالياته في التاريخ لا خارجه. وقد بُلينا بمتكلمين على غير قواعد في تفكيرهم في المثال، فما بالك أنْ تكون لهم قواعد في فهم التاريخ والواقع الملموس. جيل من الشباب والرجال، منهم الصادق الواهم، ومنهم الكاذب المأجور، يفتحون الباب لكل سؤال ونقاش وطرح عرَضي. يدعوننا إلى الشكّ في العلن، بغير ضوابط، وقد نسوا أن مشاكلنا غير ذلك تماما:
– العبث بكل يقين وتفكيكه باللامعنى.
– تعدد اليقينيات في زمن يطلبُ وحدتها.
فعوض أن يعمل بعض أبناء جلدتنا على إيجاد حل للمشكلين أعلاه، بما تفرع عنهما من مشاكل تفصيلية، تراهم يدعون إلى الشكّ ويبررونه ويحتفلون به. لمن يا ترى؟ وفي أي زمن تأتي هذه الدعوة؟ إنهم يدعون إلى الشك ويبررونه لكل أحد، دون تمييز بين قاصر وناضج (والقصور والنضج متعلقان هنا بمدى القدرة على التمييز بين العقل في الذات والعقل في التاريخ، وليس بالأهلية). والغريب أنهم يحتفلون بهذه الدعوة، في زمن يعدّ فيه “الشكّ الطائش” مهزلة لا يقدم عليها عاقل يفكر في العالم قبل التفكير في ذاته، كما يعدّ سياسية يشرف عليها كبار المستثمرين في العبث، والبارعين في ترقيص دمى شعوب الجنوب المُرهقة بالاستغلال والاستعمار.
كلّ يوم تخرج علينا رموز، لم نصنعها بأيدينا، بل إن صانع ثورتها على المقدّس، هو نفسه من صنع تشبّثها به في السابق. وكما كان تشبثها به على غير هدى ووعي في السابق، ها هي ذي اليوم تدعي نقدا للتراث على غير هدى ووعي أيضا. هل حقّا نحن في حاجة إلى إعلان تخبطاتنا كأنها بطولات؟ هل من الحكمة أن نشغل الفقهاء بتناقض يضطرون إليه ويرَاد لهم أن ينسوا فيه مهمات أخرى أكثر إلحاحا، من قبيل: ترسيخ ثوابت التدين لدى الناشئة والشباب، حماية الدولة بحماية الأسرة وتنظيم وتأطير المجتمع، تبني مختلف القضايا الوطنية بمرجعية دينية، التخفيف من حدة الاحتقان الاجتماعي بالضغط على الطبقة المسيطرة والرأسمال الأجنبي… إلخ؟ هل من المقبول أن نجرّ الفقهاء جرّا إلي مبحث عرضي (هل الشك جائز أم محرّم؟) في إشكالية أكبر (=كيف نفسّر التفكيك الذي يُستهدف به “الدين” كخزان للذاكرة والمعايير والقيم والمثل؟ وكيف يواجه الفقهاء هذا التفكيك؟)؟
شك التائه الحيران: شكّ اضطراري (بتعبير أحمد الريسوني)، وما اضطرت إليه إلا فئة تسلل إليها العابثون من مأجورين وزائفي الإشكاليات. أما شك العالم والباحث المجتهد فهو: شك اختياري (بتعبير أحمد الريسوني)، وهو شكّ منهجي منضبط بضوابط، وبالتالي فهو متحكّم فيه، عكس شك المتنطعين المستلَبين الذين يعيشون على “طمأنينة الأسئلة”، دون الإجابة على أي سؤال منها.
الشكّ الأول يواجَه بقوتين:
– قوة إدارة الدولة، لتفرض القانون وتمنع الاختراق وتعمّم إيديولوجياتها الوطنية. وما يلاحَظ من ضعف في إدارة الدولة فهو راجع إلى: تبعية الرأسمال المحلي وفساده.
– قوة إدارة المجتمع، لتؤطر الشارع وتشغل المجتمع بالإشكاليات الحقيقية (وعيا وتحريضا) بدل الإشكاليات الزائفة. وما يلاحَظ من ضعف في إدارة المجتمع فهو راجع إلى اختراقها من قبل الرأسمال الأجنبي سياسيا وثقافيا وإعلاميا.
والشكّ الثاني هو شكّ خاص بالمختبرات، ورفيق للباحثين والمجتهدين في خلواتهم الخاصة. فلا مجال للحديث عن المعهود المتعارف إليه، وإلا استحال الخاص عامّا، والاستثناء قاعدة، بإثارة الخاص والاستثناء على وجه الاندهاش والطلب الملح كل مرة.
إنها دعوة صادقة للصادقين، أما المأجورون فلا قدرة لنا على تأجيرهم عوضا عن أجور يتلقفونها لأداء مهمة “التفكيك” على أكمل وجه.