يتخلى المسلم في رمضان عن كثير من العوائق والعلائق التي تبعده عن التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، وربما كانت منها معاصي ومخالفات تحجب نور القرآن عن قلبه.
فإذا حل الشهر المبارك ارتفعت تلك الحجب، ففتحت أبواب التدبر، وتيسر سبيل التأمل في كنوز القرآن، والعاقل من يستغل هذه الفرصة ليديم التدبر في كتاب الله تعالى.
“والتدبر: التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أُودعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبر تدبرا انكشف له معان لم تكن بادية له بادئ النظر”[1].
وقد بين الله سبحانه أن علة إنزال القرآن هي تدبره لفهم معانيه والاقتناع برسالته وتجسيد أحكامه في الواقع العملي:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص/29].
فهذا “هو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر”.
وقد أنكر الله سبحانه على الذين لا يتدبرون القرآن:
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد/24]
“فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه، كان كمن له لقحةٌ درورٌ[2] لا يحلبها، ومهرة نتوج[3] لا يستولدها، وكان جديراً بأن يُضَيّع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً”[4].
قال الحسن البصري رحمه الله: “نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخذوا تلاوته عملا”.
وقد بين الإمام ابن القيم رحمه الله فوائد التدبر فأفاد وأجاد:
“فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته؛ من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمعٍ منه الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما وتتُلُّ[5] في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه وقواطع الطريق وآفاتها وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة؛ تعرفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول إليه وما له من الكرامة إذا قدم عليه وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان والطريق الموصلة إليه وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه ستة أمور ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها ومطالعتها فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقا والباطل باطلا وتعطيه فرقانا ونورا يفرق به بين الهدى والضلال؛ والغي والرشاد؛ وتعطيه قوة في قلبه وحياة وسعة وانشراحا وبهجة وسرورا فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه والعلم بالله وماله من أوصاف الكمال وما ينزه عنه من سمات النقص؛ وعلى الإيمان بالرسل وذكر براهين صدقهم وأدلة صحة نبوتهم والتعريف بحقوقهم وحقوق مرسلهم وعلى الإيمان بملائكته وهم رسله في خلقه وأمره وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي وما يختص بالنوع الإنساني منهم من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه؛ وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد ولا تنغيص وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح وتفاصيل ذلك أتم تفصيل وأبينه وعلى تفاصيل الأمر والنهي والشرع والقدر والحلال والحرام والمواعظ والعبر والقصص والأمثال والأسباب والحكم والمبادئ والغايات في خلقه وأمره؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل؛ وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل؛ وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل؛ وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل؛ وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل؛ وتبصره بحدود الحلال والحرام؛ وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل؛ وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره: تقدم الركب وفاتك الدليل فاللحاق اللحاق والرحيل الرحيل وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل؛ وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو أو قاطع من قطاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد، وبالجملة: فهو أعظم الكنوز.
[1] التحرير والتنوير – (1/3625)
[2] أي: شاة حلوب.
[3] أي: ناقة ولود.
[4] نظم الدرر للبقاعي – (7/191)
[5] معنى (تتُلُّ في يده) تلقى في يده توضع في يده.