مصادر التشكيك في الأحاديث (1) د. حمزة الفتحي

من بلايا السياق التخلفي، والمرحلة التراجعية في حياة الأمة، أن يُلحق بالدين النقيصة، وأن يُنسب للشرع المجيد كل تراجع وهوان! و«كما تحررت أوربا من سيطرة الدين عليها، وتبينت الحق، كذلك يجب على أمتنا اقتفاء ذلك» كما تقول جمهرة العقلانيين والتنويريين والمهرجين… هذه الأيام وقبلها! {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (سورة الكهف).
وبات جهالُ أمتنا أوصياء على إسلامنا، ومنظّرين لخطوط نهضتنا ومقوماتها؛ ومن ذلك حملتهم على السنة وبعض القضايا الحديثية، وضرورة إخضاعها للعقل و«المكتشفات» الحديثة!
وتجاهلوا قول الحق: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (سورة النساء)، وقوله سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا} (سورة الحشر)، وقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» أي السنة.
ومدرسة التشكيك امتداد لمدرسة عقلانية قديمة، ابتدأت بطوائف المعتزلة، وانتهت أو تطورت برفاعة طهطاوي وجمال الأفغاني ومحمد عبده في العصر الحديث؛ ولا تزال تتوالد من حين لآخر وتظهر لها رؤوس جديدة كالترابي وعدنان إبراهيم وغيرهما.
وليس أهل السنة ضد العقل، أو متحجرين، كلا! بل إنهم عقلانيون بحدود، فهم لا يطلقون له العنان، ولا يجعلونه يستقل بنفسه عن نور النص وسطوع النقل، لعلمهم بانعدام التعارض بينهما، وآيات العقل والتفكر والتأمل مشهورة في القرآن بجلاء عجيب.
لكن المجازفين هنا تمادوا به، وقدسوه إلى درجة محاكمة النصوص النقلية، والتعويل على العقل بلا ضوابط دقيقة، فوقعوا في الحرج من حيث رد النصوص، أو الاضطراب المنهجي المسيء!
ولذلك إذا تأملتَ مصادرهم وصنوفهم، وجدتهم كالآتي:
-1 عقلانيون مبالغون: يقدسون العقل تقديسا مطلقا، يجعلهم يرفعونه فوق حده، متجاوزين به النقل والنص، فإن عارضه شيء احتكموا إليه وليس إلى النقل، وتلك جناية كبرى، أنى لها أن تكون؟!
لأن ربنا سبحانه خالق العقل والموحي بالنقل، فكيف يتعارضان؟! إنما التعارض في عقول البشر، وسوء الحكم والتفقه.
لأنه لا يمكن لنص صحيح أن يتعارض مع عقل صريح، وعلى هذه المسألة بنى شيخ الإسلام ابن تيمية وألف كتابه الذائع «درء تعارض العقل والنقل»، وفيه قال تلميذه شمس الدين ابن القيم رحمه الله، في الكافية الشافية:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي        ما في الوجود له شبيه ثاني
وممن تورط في هذا المسلك بعض أئمة الكلام، كالفخر الرازي والغزالي والجويني، قبل أن يتوب بعضهم، فمثلا الرازي كان يقدم العقل على النقل، ووضع شروطا تعجيزية في قبول الأدلة النقلية، وهو من اشتهر قوله:

نـهــايـة إقــدام الـعـقــول عـقــالُ    وأكثر سعي العالميـن ضــلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا     وحـاصـل دنيـانـا أذى ووبــال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا     سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وفيه قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «لسان الميزان» (4/426)، لما احتفى بالعقل حفاوة تجاوز بها منهج الاعتدال: «له تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث الحيرة، وكان يورد شبه الخصم بدقة، ثم يورد مذهب أهل السنة على غاية من الوَهاء».
-2 تجديديون منحرفون: يزعمون تجديد علوم الشريعة والارتقاء بها، فضَلوا السبيل، ووقعوا في المحاذير، من ليّ النصوص أو ردها، أو مصادمة ظواهرها القاطعة، أو التوسع في المصالح والاستحسانات، كما هو الشأن مع المدعو جمال البنا، وتخريفاته التجديدية المشهورة، من مثل تجويزه نكاح المسلمة للنصراني، تجسيدا لـ «مبدأ المواطنة»، وإباحته القبلات بين الجنسين، وزعمه أن الحجاب خاص بمنطقة الجيب والصدر فحسب، وغيرها من الانحرافات الشنيعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *