وسطية القبض على الجمر عبد المغيث موحد

قضية الخيرية هي لا شك قضية غير منفكة عن الأمة المسلمة، حتى أننا غير مطالبين ولسنا في حاجة إلى تنازل أو مساومة أو تمييع أو أسداس حلول وأنصاف أحكام، حتى ننالها كسبا أو نطلب وسامها من الآخر، طلبا مشفوعا برشاوي المداهنة، وإتاوات الإيمان ببعض الكتاب، والكفر بالبعض الآخر. فعناصر هذه الخيرية هي إذا ليست بدعا واكتشافات، إنما هي أصول وبدهيات طوعية لا تحتاج إلى تطويع أو إعمال المقص لتفصيل الثابت القطعي على مقاس المصالح الدنيوية الهابطة، فعنصر الوسطية والاعتدال وعلاقته بهذه الخيرية لا يمكن أن ننظر إليه بعين الانفكاك، وأنه من اللواحق الكسبية التي نالها الإنسان من شريعة الله عبر مسار سيرورته التاريخية.

هذا النوال الذي ساهم في تشظي الدين الإسلامي إلى أديان، أسها الاختلاف التابع لعوامل زمنية وأخرى جغرافية؛ الأصل فيها أنها غير معتبرة، فيتبدل خطابه وينشطر مضمونه، وتنحسر فيه الأوامر كلما اتجهنا في المنحى الطبقي من الفقر نحو الطبقة الأرستقراطية، التي تجعلنا مصالحها وامتيازاتها الطبقية مدفوعين إلى استفراغ الجهد والوسع، لنخرج لها دعوة جديدة يقوم بها دعاة جدد أخذوا على عاتقهم خلق مناخ تديني جديد باسم الوسطية واليسر، هذا التدين لم يأت على الأبنية الضرار لأهل الدثور المعاصرين، ولم يستطع أن يخلص المخلدين منهم من هوى النفوس؛ ومقتضيات الطباع من رق عبادة الشهوات، بل نجده قدم للأنثى منهم حجابا على المقاس الطبقي، كشافا وصافا شفافا، انتقلت عدواه وتسربت عبر رشح فياض إلى الطبقة السفلى، حتى عمت البلوى بهذا الشكل الذي نضحت به شوارعنا، شكل سروال الجينز والوزرة اللاصقة الموقعة بضمادة تلف الرأس لفا، لا يستر جيبا، ولا يخمر جيدا، ولا يحبس خصلة ناصية، ولا يحجب زغب قفا.
ثم عمد إلى الذكور منهم فجاد عليهم بألوان من المشتبهات أعطتهم هامشا من الكفايات البدعية، فترجمت الوسطية إلى سلوكيات ليس بينها وبين الإسلام اشتراك اسم ولا اشتباه رسم، فتحلل هؤلاء الذكور من المكاره التي حفت بها الجنة، واستعاضوا عن مشقتها بلذة الذوق والحال، وما تجنيه النفس التواقة إلى مقامات التزكية الحداثية عبر الشطح وخفض الأرداف وهز الأكتاف، في تناغم بديع وحضرة راقية يعمها الاختلاط المذموم، وتصاحبها ترانيم العود والناي والطبل والمزمار، وتعلوها تصدية الحمقى ومكاء المهبولين، حتى إنه ليخيل للمعاين أن حبل الاتصال بين جيل السلف الصالح ولواحق الخلف الطالح ترهل واتسع خرقه على راتق الخير ومساعي الحمد والحكمة، وصار إسلام المعاملة إسلام النصيحة إسلام التوحيد، مجرد ثقافة معرفية في حس الكثرة الغثائية، معرفة غير مشمولة بالنفاد لا على الفور ولا على التراخي.
يتم هذا وأكثر منه باسم الوسطية والاعتدال والاشتقاق الإسمي الذي يجعل الإسلام مرادفا بالمبنى والمعنى للسلام، حتى وإن اغتصب العرض، وضاعت الأرض، وضاقت علينا ملابسنا بما رفلت، وصرنا رعاة أحلام نرعى السلام الذي كتبت سطوره بأقلام فارغة من الحبر، مخلفة تركتها في المسودات والمواثيق الدولية، سراب ضغط وأشكال لغط وبقايا سخط وحصاد قحط.
ولسنا نحيد بهذا عن السلم إن جنح له الآخر، فنحن أمة؛ حبُّ السلام فيها أصيل، ولكن العيب أن نلوذ بأطلاله والآخر يخسف الأرض من تحت أقدامنا، فهذا أبو عبيدة الجراح يسير بين صفوف جيش المسلمين ويقول: “ربّ مبيض لثوبه مدنس لدينه، ربّ مكرم لنفسه وهو لها مهين”، أولئك أجدادنا الذين عاشوا اعتدال هذا الدين وتنعموا بظل وسطيته الوارف على الحق والصدق، فأين تلك من هذه الوسطية الجديدة، وهي ترفل في ثوب المروق ومسخ مصالح الإخلاد إلى الأرض؟
إن وسطية اليوم هي وسطية كسب دخيلة، فهي في باب الاعتقاد معتقد غريب وتصور إلى الخرافة قريب، يحمل معتنقيه من الدعاة الجدد على دعوة معشر المغلوبين وحثهم وحضهم على
..قد يأتي يوم تكون فيه الوسطية على الحقيقة نوع من أنواع القبض على الجمر، الذي هو ثبات على السبيل، وقبض على الثوابت، وعض بالنواجذ على الاستقامة وفق الأمر، حتى نتجنب خيبة التدسية، ونجني فلاح التزكية، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في الوسطية وقد ساومه يوما من دهره أهل الشرك وصناع الإفك، فعرضوا عليه مشروع الالتقاء معهم في منتصف الطريق، فنزل الردّ الوسط يؤكد مبدأ الثبات على الاستقامة وفق الشرط.
محبة غالبهم ببغي وظلم، ويناديهم بتجدد أوامر حشرت بتدليس وعنوة بين مطالب الشرع وأخباره باسم الحلم والعلم إلى إنكار الذات؛ من خلال إحداث انفعال نفسي بارد كفيل بتهدئة خواطر الغيرة، وصرع بقايا الإيمان وإماتة لوازم الانتماء إلى حمى هذا الدين الأبي العظيم.
يقع كل هذا على مضض ومكرهة غير اعتيادية ضمانا لصيانة مصالح الآخر والإبقاء على دولة الأيام في صفه، وهكذا نساق باسم الوسطية والتسامح إلى تدشين اليوم العالمي للأديان، ليصلي صاحب الإخلاص جنبا إلى جنب مع الصليبي والصهيوني، الكل مأموم وراء البابا كما حصل هذا في قرية أسيس بجنوب إيطاليا سنة 1986م، وتكرر في جبل كيوطو باليابان، ثم نساق مرة أخرى باسم التسامح والتوحد للتقريب بين أهل السنة ومجوس فارس وأشياعهم، ثم على الذين يقفون ضد هذه التيارات المارقة أو حتى الذين يطيقونها على غصة وعنت، عدة أيام أخر من التهميش والتضييق والتلفيق والتشنيع والتسميع باسم المغالاة والتطرف والظلامية والزيغ والبغي والإغراب، الذي يجعل أولياء الله حقا وصدقا خارج سياق الانتماء، فتتداعى عليهم بشراكة أضداد قوى الحداثة وقوى التدين الرسمي، لتطاردهم بجفوة وتلاحقهم بسطوة، وتأتي على فكرهم الطاهر الطيب بالنقض والأخذ، فلا تكاد تحس لولائهم ركزا، ولا تسمع لبرائهم همسا، حتى باتت مادتهم الصلبة بين مطرقة أهل التكفير الذين ينظرون إلى وسطية المنهج الحق فيسمونها بالرعونة والميوعة، وسندان أهل الحال والذوق الذين ينبزون عين هذه الوسطية بالغلو والتطرف والإرهاب الفكري.
إن وسطية الإسلام، هي صفة كنه لازم له غير منفك عن كله، وقد سمى الله أمة الإسلام بالأمة الوسط، وقد لا يكون الوسط هنا مجرد موقف بين يمين وشمال، أو منطقة أعراف بين إفراط وتفريط، وإنما هو كون تدور في فلكه مبادئ الحياة بشتى أركانها ومستويات أسلاكها، دوران لا عوج فيه ولا اختلال، يد البطش في حركته غير مغلولة إلى جيد الشح والبخل، ولا مبسوطة كل البسط في اتجاه الهدر والتبذير، وكيف يحصل هذا أو ذاك وقد أمرنا سيد الوسطية وإمام المعتدلين أن نأخذ لوضوئنا النزر الكافي، ولو كنا نسبغ على شفى نهر جار؟
فلا ضير بعد هذا، أن يرى الخصم والمناوئ وسطيتنا بعين التشدد والتطرف، فقد يأتي يوم تكون فيه الوسطية على الحقيقة نوع من أنواع القبض على الجمر، الذي هو ثبات على السبيل، وقبض على الثوابت، وعض بالنواجذ على الاستقامة وفق الأمر، حتى نتجنب خيبة التدسية، ونجني فلاح التزكية، ولنا في رسول الله أسوة حسنة في الوسطية وقد ساومه يوما من دهره أهل الشرك وصناع الإفك، فعرضوا عليه مشروع الالتقاء معهم في منتصف الطريق، فنزل الردّ الوسط يؤكد مبدأ الثبات على الاستقامة وفق الشرط، موقعا بقوله تعالى في سورة الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *